عون الإله في بيان أن السلف لم يفوضوا صفات الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الباعث على كتابة هذه الكلمة هوبيان أن السلف رحمهم الله لم يفوضوا معنى صفات الله فإني قد وجدت في بعض كتب أصول الفقه[1] أن السلف كانوا يفوضون معنى صفات الله وهذا باطل فالسلف رحمهم الله كانوا يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، أو علىلسان رسول الله r من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ،ولا تمثيل ،والمقصود بالتحريف تغيير اللفظ أو المعنى ،فتحريف اللفظ كتحريف البعض كلمة الله في قوله تعالى : ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾[2] بأن نصبوا لفظ الله على أنه مفعول به فيكون الكلام من موسى عليه السلام بدلاً من أن يكون مرفوعاً على أنه فاعل ،فيكون الكلام من الله ، وبذلك ينفون دلالة الآية على أن الله يتكلم ، وهذا باطل ،فالآية أثبتت أن الله يتكلم ، وهذا الكلام يليق به ليس ككلام المخلوقين ،وتحريف المعنى كقول البعض في قوله تعالى : ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾[3] أي قدرة الله فوق قدرتهم لكي ينفوا دلالة الآية على أن لله يداً ، وهذا باطل فالآية أثبتت أن لله يداً ، والصفة تليق بالموصوف فالإنسان له يد تليق به ، والبعير له يد تليق به ، والغوريلا لها يد تليق بها كذلك الله له يد تليق به ليست كيد المخلوقين ،والمقصود بالتعطيل نفي ما أثبته الله لنفسه من أسماء أو صفات كقول البعض في قوله تعالى :﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾[4] لا أدري ما المراد أفوض معنى اليد ، ولا أثبت أن لله يداً حقيقية فهذا باطل فالله أثبت لنفسه يدين إذاً لله يدان ، والمقصود بالتكييف أي حكاية كيفية الصفة فعندما أقول لك كيف يأكل محمد ؟ فتقول يأكل محمد هكذا ، وعندما أقول لك كيف يبرك البعير ؟ تقول يبرك البعير هكذا ، ونحن لأننا لم نر الله ،وليس لله شبيه فكيف نكيف صفاته ؟!!! أما أهل الأهواء فعندما تقول لهم ينزل الله يقولون لك ينزل هكذا ،وهم لم يروا الله فهذا كذب ، والمقصود بالتمثيل ذكر مماثل لله في صفاته فعندما تقول لله يد يقولون لك له يد كيدي ، وعندما تقول ينزل الله يقولون ينزل كنزولنا ، وهذا باطل قال تعالى : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾[5] ، ومعنى تفويض معنى صفات الله أي مجرد الإيمان بألفاظ النصوص من غير إثبات معناها و السلف رحمهم الله لم يفوضوا معنى صفات الله ،ومما يدل على عدم قول السلف بتفويض معنى صفات الله أن القول بتفويض معنى صفات الله قول باطل فكيف ينسب للسلف الباطل ، وهم خير الأمة ؟!! وبيان ذلك أن كل موجود في الخارج فلابد أن يكون له صفة إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والله ليس له صفات نقص إذا لله صفات كمال ،و قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال ، والله سبحانه هو الذي أعطاه إياها فمعطي الكمال أولى به ،والنفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله ، وتعظيمه، وعبادته ، فكيف تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته ؟!! وقد قال تعالى : ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[6] أي لله الوصف الأعلى فالآية أثبتت أن لله صفات الكمال وكفى بكلام الله دليلاً و مما يدل على بطلان القول بتفويض السلف معنى صفات الله أن المعطلة الذين ينفون معنى صفات الله كانوا خصوما للسلف ،ولو كان السلف يوافقونهم في عدم دلالة النصوص على صفات الله لم يجعلوهم خصوماً لهم ، ولما أطلقوا عليهم معطلة ، ومما يدل على بطلان قول السلف بالتفويض قول الوليد بن مسلم : ( سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف )[7]ففي هذه العبارة رد على المعطلة والمشبهة، ففي قولهم : " أمروها كما جاءت" رد على المعطلة . وفي قولهم: " بلا كيف" رد على المشبهة . وفي قولهم أيضاً دليل على أن السلف كانوا يثبتون لنصوص الصفات المعاني الصحيحة التي تليق بالله فقولهم : "أمروها كما جاءت". معناها إبقاء دلالتها على ما جاءت به من المعاني، ولا ريب أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة بالله تعالى ، ولو كانوا لا يعتقدون لها معنى لقالوا : " أمروا لفظها ولا تتعرضوا لمعناها ". ونحو ذلك ، و قولهم: " بلا كيف " فإنه ظاهر في إثبات حقيقة المعنى ، لأنهم لو كانوا لا يعتقدون ثبوته ما احتاجوا إلى نفي كيفيته ، فإن غير الثابت لا وجود له في نفسه ، فنفي كيفيته من لغو القول ، وقال أبو حنيفة : ( وله يد ووجه ونفس , كما ذكره الله تعالى في القرآن , فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته , لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال )[8] ،ولما سئل أبو حنيفة عن النزول الإلهي قال : ( ينزل بلا كيف )[9] والله لصفاته كيفية لكنها مجهولة لنا فالشيء إنما تعلم كيفيته بمشاهدته ، أو مشاهدة نظيره ، أو خبر صادق عنه ، وكل هذه الطرق غير موجودة في صفات الله ؛ لذلك لا نكيف صفات الله ، ولما سئل مالك عن كيفية استواء الله على العرش قال : (الكيف منه غير معقول , والاستواء منه غير مجهول , والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة )[10]فقوله : الكيف غير معقول : أي مجهول ، وقوله :
الاستواء غير مجهول : أي معلوم ،وقال الشافعي : ( نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن ووردت بها السُّنة وننفي التشبيه عنه كما نفى عن نفسه )[11] فقوله رحمه الله ظاهر في إثبات حقيقة المعنى ؛لأنه لو كان لايعتقد ثبوته ما احتاج إلى نفي التشبيه ، وقال أبو بكر المروزي : ( سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش فصححها وقال : تلقتها الأمة بالقبول وتمرّ الأخبار كما جاءت)[12] فقوله تمر كما جاءت يشمل لفظ الخبر ،ومعنى الخبر ،ومن قال يقصد اللفظ فقط دون المعنى نقول له أين الدليل على قولك هذا ؟ فإن قال قد قال أحمد : ( إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، والله يُرى ، وأنه يضع قدمه ، وما أشبه بذلك : نؤمن بها ونصدق بها ، ولا كيف ، ولا معنى! ولا نرد شيئا منها ، ونعلم أن ما قاله الرسول rحق إذا كانت بأسانيد صحيحة )[13].. فدليل المخالف هنا قول الإمام أحمد : " ولا كيف ولا معنى"والجواب على ذلك المعنى الذي نفاه الإمام أحمد في كلامه هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم ، وحرفوا به نصوص الكتاب والسنة عن ظاهرها إلى معانٍ تخالفهفقد نفى المعنى ، ونفى الكيفية ، ليتضمن كلامه الرد على كلتا الطائفتين المبتدعتين : طائفة المعطلة ، وطائفة المشبهة ، ويدل على ذلك قول يعقوب بن بختان : ( سئل الإمام أبو عبد الله عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت ، قال : بلى يتكلم سبحانه بصوت)[14] فهل يمكن للمفوض للمعنى أن يثبت أن الله تعالى يتكلم بصوت؟ فالإمام أحمد هنا يثبت أن الله تعالى يتكلم بصوت ، وهذا إثبات للمعنى ، أما الكيفية فمجهولة ، وقال يوسف بن موسى : ( قيل لأبي عبد الله : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف شاء من غير وصف؟. قال : نعم)[15] فقول الإمام أحمد : " من غير وصف".. أي من غير تكييف.. ولم يقل من غير معنى ، بل أثبت المعنى ، وهو النزول فزبدة الكلام أن السلف كانوا يفوضون كيفية صفات الله لا معنى صفات الله هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وكتب ربيع أحمد سيد الأربعاء 12 محرم 1428هـ 31/1/2007م















[1] - غاية الغرابة أن يقول د. وهبة الزحيلي في الوجيز في أصول الفقه ص 189: ( رأي السلف أحوط وأولى ، ورأي الخلف أحكم عقلاً ) لاعتقاده أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ النصوص بغير إثبات معناها ، كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكمإذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة ، والحكمة في سلوك تلك الأسباب .

[2]- النساء من الآية 164

[3]- الفتح من الآية 10

[4] - المائدة من الآية 64

[5] - الشورى من الآية11

[6] - النحل من الآية 60

[7] - أخرج هذا الأثر الدارقطني في الصفات ص75 , والآجري في الشريعة ص314 ،والبيهقي في الاعتقاد ص118 , وابن عبد البر في التمهيد 7/149، و في إبطال التأويلات في أخبار الصفات لابن الفراء 1/47

[8]- الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 302

[9]- الأسماء والصفات للبيهقي ص 456

[10]- أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 7/151 ، و البيهقي في الأسماء والصفات ص408 وصححه الذهبي في العلو ص103 .

[11] - سير أعلام النبلاء للذهبي 20/ 341

[12] - طبقات الحنابلة 1/56

[13] - إبطال التأويلات لابن الفراء 1/45

[14] - المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 1/302

[15] - المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة1/348