أوجست كونت1798/1875






يحتل اوجست كونت مكانه هامه في علم الاجتماع باعتبارره اول
من اطلق مصطلح علم الاجتماع sociology علي العلم الذي
يدرس الظواهر الاجتماعيه كذلك كان اول من حدد موضوع علم
الاجتماع في العالم الغربي .
ويحاول علماء الغرب اثبات انه اول من اعلن قيام علم موضوعي
لدراسه الظواهر الاجتماعيه.(1)

وفي عام 1817 عمل كونت سكرتيرا لسان سيمون الذي اشتغل
بالاصلاح الاجتماعي وقد راع كونت ماشهده من فوضي اعقبت
الثوره وخاصه ماتعلق منها بالتفكك الاجتماعي والفوضي
واضطراب النظام الاخلاقي وحالة الفقر المادي والثقافي الذي
عانت منه كثير من الجماعات الاجتماعيه .(2)


فذهب الي انه لايمكن مواجهةهذه الفوضي الا من خلال دراسه
الظواهر والمشكلات الاجتماعيه باستخدام المنهج المطبق في العلوم
العلوم الطبيعيه ولهذا اقترح اطلاق اسم "الفيزياء الاجتماعيه " علي
هذا العلم المقترح ثم مالبث ان اكتشف ان هناك مفكرا آخر استخدم
هذا المصطلح فاستبدله بمصطلح "علم الاجتماع " .
" ويذهب بعض الباحثين الي ان المذهب الوضعي لعلم الاجتماع عند كونت صدر عن رغبته في اطلاق سلاح ايدولوجي في مواجهه عاملين اساسيين هما :

1)البناء الفكري الثوري لعصر الاستناره الذي يدعو الي اعاده
صياغه النظم والعلاقات الاجتماعيه لصالح الطبقه البرجوازيه
(حيث انهذه الطبقه وصلت بالفعل الي السلطه ).



2)النظريات الماديه الثوريه التي تحاول الاستمرار بالفكر الثوري
في عصر الاستناره من اجل تحقيق الثوره البروليتاريه .(3)
ان المتتبع لفلسفه "كونت "يتبين انها تحمل ملامح تتشابه مع تفكير
جيوفانى باتشا فيكو Giovanni battsha (1668-1744) الذى
كان كونت قد درسة , فهو يستمد من فيكو فكرة اولوية التاريخ فى
امور البشر , كما نلمس خلال هذة الفكرة ايضا فيما كت كونت عن
المراحل المختلفة فى التطور التاريخى للمجتمع البشرى متخذا
بالرأى القائل ان المجتمع بنتقل من حاله لاهوتية اصلية مارا
بمرحلة ميتافيزقية لينتقل اخيرا الى مايسمى بالمرحلة الوضعية ,
التى تنتقل بالمسار التاريخى الى نهايته السعيد (المرحلة الوضعية)
التى يحكمها العلم العقلانى .(4)





الاتجاة الوضعى عند كونت



يرى كونت ان مظاهر الفوضى الاخلاقية والاجتماعية ترجع الى
الفوضى العقلية , ويرجع الفوضى العقلية الى استمرار سيادة

الاتجاهات الثيولوجية او الدينية من ناحية والميتافيزيقيه او الفلسفية

من ناحية اخرى .


فى حين ان هذين الاتجاهين يمثلان مراحل سابقه مرت بها
الانسانية –وانه يجب ان تنتقل الى مرحله جديدة هى مرحلة الفكر
الوضعى .

ففى هذة المرحله الاخيرة يمكن مواجهة مشكلات المجتمع من خلال
العلم .

هكذا لا يتطلب مواجهة مشكلات المجتمع تغيير الاساس الاقتصادى
للمجتمع , وانما تعتبر مناهج التفكير والقضاء على الفوضى العقلية

وتحقيق الانسجام والوحدة الفكرية ضمانا لاستمرارة وتقدمة من
اجل تحقيق هذا الهدف دعا الى انشاء علم جديد يدرس المجتمع
دراسه علمية تستند الى المنهج الوضعى .

وقد طبق كونت هذا المنهج على معظم المشاكل التى حفل بها
عصرة .

ففى مجال المشكلات الاجتماعية العامة زعن ان تحقيق الوحدة العقلية من
شأنة تحقيق وحدة فكر حول اسلوب مواجهة المشكلات وطبيعه الحل نفسه
خاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين الناس داخل المجتمع .
وفى ميدان التربية فإن هذة الوحدة ستساعد المسئولين على وضع تربية

قومية ترتكز على مبادئ ومعتقدات ومعايير اخلاقية تتفق مع مستوى التفكير العام .
وفى ميدان السياسة يمكن للاتجاه الوضعى تحقيق مبدأ هام وهو فصل السلطتين الدينية والزمنية وقيام تنظيمات سياسية جديدة قادرة على التوفيق بين مقتضيات النظام والتقدم , ويذهب كونت الى ان
عدم القدرة تصور التوازن والتوفيق بين هذين المفهومين هو احد اسبا ب الفوضى وعدم الاستقرار فى الحياة الاجتماعية 0
وفى ميدان الجمال يذهب كونت الى ضرورة قيام فن جديد يرتبط بالعقائد والافكار ويتفق مع المرحلة التقدمية التى وصلت اليها الحياة الاجتماعية
وفى ميدان الاقتصاد اشار الى ان الاتجاه الوضعى قادر على تحقيق
الاستقرار الاقتصادى من خلال تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل

بحيث نتجنب الصراع بينهما ونجنب المجتمع ما يؤدى اليه هذا

الصراع من مستقبل غامض غير مأمون .

تصنيف العلوم عند كونت


لقد كتب كونت اساسيات مذهبة الوضعى في مؤلف اطلق عليه

عنوان "دراسات فى الفلسفة الوضعية " استغرق تأليفه حوالى 12

عاما من عام 1830م وحتى عام 1842م وأبدى كونت نوعا من

التعصب لهذا العلم الجديد فوضعه على رأس سلسله من العلوم من

ناحية الاهمية والتعقيد , فقد قسم العلوم حسب درجة التعقيد والحداثة
والاهمية ودرجة العموم .

1) علم الرياضة
2) علم الفلك
3) علم الطبيعه
4) علم الكيمياء
5) علم الحياة
6) علم الاجتماع



وقد اقتصر فى هذا التصنيف على مااسماه العلوم الاساسية النظرية التى تستهدف التوصل الى القوانين الوضعية التى تحكم الظواهر , وتسير هذة السلسله من الاعم والابسط الى الاخص والمركب ومن اشدها تجريدا نحو اكثرها التصاقا بشئون الانسان .

ويعتمد كل علم على ما بعده وفى هذا الاطار تبرز قيمة وأهمية وصعوبة علم الاجتماع من حيث هو اعقد العلوم ومن حيث اعتماده على كافة العلوم السابقه .(5)

موضوع علم الاجتماع عند كونت


يذهب كونت الي ان علم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعيه في حاله ثباتها وتطورها اي في حاله توازنها وتغيرها وهو ماأطلق عليه الاستقرار الاجتماعي أو( الاستاتيكا الاجتماعيه)،والحركه او التغيير الاجتماعي(الديناميكا الاجتماعيه) وهو لم يذهب الي وجود علمين مستقلين أحدهما يدرس الاستقرار والاخر يدرس الحركه الاجتماعيه ،وانما جعلهما موضوعا متوحدا لعلم الاجتماع وهو عدم امكان الفصل بينهما الاعلي المستوي التحليلي لغرض الدراسه حيث نفترض الثبات في الحاله الاولي والتطور في الحاله الثانيه مع أن المجتمع في تطور مستمر .

أولا:الاستاتيكا الاجتماعيه(الاستقرار الاجتماعي ــ القانون السكوني )

يهتم هذا الفرع من علم الاجتماع بالدراسه التشريحيه للمجتمع من خلال تطبيق المنهج الوضعي القائم علي الملاحظه والتجربه والمقارنه.


ويقول آخر يدرس هذا الفرع مايطلق عليه "التوافق الاجتماعي.
ففي رأيه ان المجتمع نسق مكون من أجزاء مرتبط بعضها ببعض بحيث يكون التغير في أي منها مفضيا الي تغير فى الاجزاء الاخرى بالضرورة اى انه توصل الى فكرة الاعتماد المتبادل بين ظواهر المجتمع ونظمه . (6)

وبتعبير كونت فان كل عنصر من العناصر الاجتماعية العديدة ..ينظر اليه دائما بالنسبة لكل العناصر الاخرى التى يرتبط بها فى تضامن اساسى , ولان الظواهر الاجتماعية مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا وثيقا , فإن كل دراسة منعزلة للعناصر الاجتماعية تعد غير عقلانية من حيث الطبيعه الاساسية للعلم الاجتماعى وسوف تظل عقيمة عند هذة النقطة حاول كونت البحث عن شروط لتحقيق النظام فى المجتمع

فالشرط الضرورى لكفالة النظام وتحقيقه يتمثل فى الاجماع العام او الاتفاق العام اى اتفاق الناس حول مجموعة من الافكار والقيم والمعايير من شأنها تحقيق الارتباط الضرورى بين عناصر المجتمع وهذا الاجماع العام ليس ضروريا للتضامن والتماسك فقط وانما هو ايضا اساس تقسيم العمل فى المجتمع .

وجدير بالذكر ان كونت قد ميز بين ثلاث وحدات موجوده فى المجتمع هى ( الفرد والاسرة والاتحادات النوعية ) واستبعد الفرد من مجال دراسة علم الاجتماع فهو ليس الوحدة الاساسية للمجتمع معتبرا ان الاسرة هى الوحدة الاجتماعية الاساسية التى يظهر فيها التعاون كما يظهر فيها ايضا تقسيم العمل .

ومن ثم فهى الوحدة الاولى التى تخضع للدراسة السوسيولوجية , والتى يتعين الاهتمام بها حتى تحقق تماسك البناء الاجتماعى للمجتمع ذاته .

ففى اطار الاسرة تشكل الرغبات والدوافع ويتعلم الانسان مدى اهمية النظام والطاعه ومن خلال الاسرة ايضا يكتسب الناس كيفية الخضوع لسلطة الدولة ويدركون ضرورة تقسم العمل , وبدون توجيه الدوله وتقدير تقسيم العمل لايتمكن اى مجتمع من الاستمرار فى الوجود , كما انه بدون مجتمع يصعب ظهور السلطة وتقسيم العمل .

واذا ما اراد علم الاجتماع المساهمه فى اعادة تنظيم المجتمع فعليه اقناع الافراد بأنه على الرغم من ان تقسيم العمل يعنى تفاوتا طبقيا الا ان ظهور اى ظروف من الصراع الطبقى هو امر قضاء للطبيعه.

وبالتالى يجب القضاء عليه بتدعيم التعاون ين الطبقات فى اطار نظام "ديكتاتورى ديموقراطى " ولكى تصبح الحياة السياسية والاجتماعية طبيعية يجب تحقيق نوع من الوحده او الاتحاد بين العمل من ناحية والعلم من ناحية اخرى .(7)

ثانيا الديناميكا الاجتماعية (القانون الحركى )

تحتل هذة النظرية مكانا هاما فى فلسفة كونت وهى مرتبطة اشد الارتباط بنظرية الحالات الثلاثة , وهى اهم نظرية فى فلسفته الديناميكيه بصفة خاصه , وفى فلسفته الوضعيه بصفة عامة , لانه يعتبر المباحث الديناميكية هى اهم اجزاء الفلسفه الوضعية .
يبدا كونت تعريف الديناميكا الاجتماعية بقوله
"هو علم الحركة الضرورية للانسانية" او بإختصار هو "علم
قوانين التقدم ". (8)

الديناميكية الاجتماعية تبدأ بدراسة النمو فى حد ذاته , لكن قد ينشأ
تساؤل عما اذا كان النمو مساويا للتقدم او معادلا له .
ويبدو ان تزايد السكان ونمو القدرات العقلية يوضح ان النمو فى
هذة القدرات هو الامر المهم .

ويؤكد كونت ان دراستنا للتطور ينبغى ان تكون دراسة شامله لكل

جوانب الحياة الاجتماعية , لان هذة الدراسة الشامله التى تدرك

التغير فى كافة التظم الاجتماعية , هى اداتنا الاساسية لفهم

التغييرات التى مر بها المجتمع الانسانى , وان التطور والتقدم هما

قانونا المجتمع عند كونت , ونمو القدرات العقلية هو العامل الحاسم

فى هذا التطور والتقدم , لكن التطور التقدمى لا يسير فى خط

مستقيم , فقد تحدث تقلبات او ذبذبات كما ان معدله وسرعته

مرهونان بالتدخل الانسانى .(9)

ويري كونت أن دراسه ظاهره التقدم الاجتماعي دراسه علميه
تتطلب استعراض تاريخ الانسانيه في ضوء منهج وصفي تحليلي
للوقوف علي مراحل هذا التقدم وكشف خصائصه.(10)


ولما كان علم الاجتماع علمامجردا و نظريا ،كسائر العلوم الاساسيه
الاخري فان فكره التقدم يجب الاتتضمن أى معني نفعي أو خلقي
وقد جاهد كونت منذ عام 1826 في ازله اللبس حول هذه النقطه
وقد دفعه نقص وعدم كفايه المصطلحات اللغويه الى استخدام كلمات
مثل " الكمال " و " النمو " وكلا المصطلحين – بالرغم من ان

الثانية اكثر تحديدا من الاولى

ينطويان على افكار مطلقه ويعبران عن تحسن مطرد لا محدود ,
وهى معان لم يقصدها كونت على الاطلاق , فليس لهذة الكلمات فى
نظره الا مجرد المعنى العلمى الذى تدل به فى علم الطبيعه
الاجتماعى , على نوع خاص من تتابع الحالات التى تطرأ على
الجنس البشرى ويفضل كونت استخدام المصطلح الثانى فى معناه
العلمى الدقيق , لانه لا يريد الوصول الى احكام تقوية او تقدير قيم
للادوار المتتابعه للتقدم بالنسبة لحاله مثاليه خاصة , لكنه بكل
بساطه يريد كشف القوانين التى يسير طبقا لها التقدم الانسانى
ومعرفة التقدم فى ادوارة المتتالية .
ويعتمد التطور الاجتماعى والتنظيم الاجتماعى عند كونت على

المعرفة العلمية الوضعية بالظواهر الاجتماعية ويتضح ذالك من
افكارة حول التاريخ والمجتمع , حيث اشار الى ان تطورهما



محكومان بتطور الافكار او النمو العقلى . اما ما يبدو من وضوح
التقدم فى الجانب المادى من الحيا ة ( السيطرة على قوى الطبيعه )
فمرده الى انشغال الانسان فى اغلب الاحيان بإشباع حاجاته المادية
غير ان كونت يصر على ان النمو العقلى يثير النمو المادى ويقود
اليه . وتثير هذة النقطة بالذات سؤالا هاما مؤداه , اذا كان التطور
العقلى هو المسئول عن التطور الاجتماعى , فما هى الاسباب التى
تؤدى الى تطور العقل ؟
ومع ان كونت قد ترك هذة المشكلة دون حل الا انه افترض ونظر
االى " الملل" او السأم او الخوف من الموت , كعوامل مختلفه تؤدى
الى التطور العقلى .
وفى محاوله للاجابة عن السؤال عن كيفية مواكبة التطور العقلى
عند كونت , يقدم محمود عودة تحليلا رائعا بهذا الخصوص , يستند
الى ان التطور الاجتماعى فيما يذهب كونت شأنه شأن التنظيم
الاجتماعى – هو نتيجة لوظائف العقل الثلاثة ( الوجدانى او
العاطفى ) , و ( العمل ) , و( التفكير او الادراك ) .
وقد تطور كل قسم من اقسام العقل هذة فى مراحل ثلاث , تنعكس

على التنظيم الاجتماعى والتطور الاجتماعى على النحو الاتى :



(1) الجانب الوجدانى او العاطفى :

وهو اساس اشباع الحاجات الانفعالية للانسان , حيث :
( أ ) كانت العاطفة ( الايثار ) عائلية موجهه نحو الاسرة فى
المرحلة الاولى .
( ب ) ثم اتسع نطاقها فى العصور الوسطى لتصبح جمعية وقومية
او موجهه نحو الدولة .

(جـ ) اما فى العصور الوضعية الحديثة , فإن ( الايثار ) سوف
يتجه الى الانسانية ككل .

( 2 ) الجانب العملى , وقد مر بمراحل ثلاثه ايضا على النحو التالى :

( أ ) الغزو .
( ب ) مرحلة الدفاع .
( جـ ) مرحلة الصناعه .

( 3 ) الجانب الفكرى او الادراكى او المعرفى , ويشمل :
( أ ) المرحلة اللاهوتية .

( ب ) المرحلة الميتافيزيقية.

( جـ ) المرحلة الوضعية العلمية .

قانون الحالات الثلاث :
يرى " كونت " أن البشرية مرت عبر تاريخها الطويل منذ وجودها حتى زمانه بحالات ثلاث, أو مراحل ثلاث متتابعة ومتوالية. وكل مرحلة تسلم للأخرى التي تليها ، وهذه الحالات الثلاث يطلق عليها " كونت " " قانون التقدم الإنساني" والفيلسوف مثل كل الفلاسفة والمفكرين الماديين الملاحدة يعتقد أن البشرية بدأت حياة بدائية قريبة من حياة الحيوان. ثم تقدمت تدريجياً عن طريق الخبرات والتجارب الحياتية, دون معونة أو توجيه من وحي أو إله. وهذه هي نفس عقيدة علماء الاجتماع والنفس, فكل هؤلاء يعتقدون أن الإنسان نشأ بدائياً, ثم تدرج بذاته وخبراته وتجاربه ، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وهذا الرأي مناقض تماماً بل مصادم للعقيدة الحقة التي نعتقدها ونؤمن بها نحن المسلمين. بل ويؤمن بها كذلك اليهود والنصارى أصحاب الكتابين السماويين, رغم ما وقع فيهما من تحريف وتبديل , فالكل يؤمن بأن البشرية بدأ تاريخها بأبي البشر" آدم" عليه السلام, وأن الله- سبحانه- خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته, وأسكنه جنته. وقد كان آدم عليه السلام نبياً, ولم يكن جاهلاً ولا بدائياً, بل كان لديه من العلم الذي أفاضه الله- تعالى- عليه. وعلمه إياه ما لم يكن لدى الملائكة, ولقد أمر ربنا- سبحانه- آدم أن يعلم الملائكة بعض ما كانوا يجهلون, فقد قال الله- تعالى- لآدم عليه السلام, " ياآدم أنبئهم بأسمائهم " هذه عقيدتنا, وهذا هو الحق لدى المسلمين, بل لدى غيرهم من أصحاب الدينين السماويين .
لكن" كونت " حسب ما يرى أن البشرية نشأت بدائية ثم تدرجت نحو التقدم, وإنه- بناء على ذلك- وضع ما أسماه " قانون الحالات الثلاث, أو التقدم الإنساني ". حيث إن البشرية مرت عبر تاريخها نحو التقدم بثلاث حالات أو مراحل :
-الحالة اللاهوتية : يرى " كونت " أن هذه الحالة أو المرحلة كانت البشرية تحاول فيها التعرف على ما حولها. وكان العقل الإنساني يبحث في هذه المرحلة عن كنه الأشياء, وحقيقة الظواهر, وكان يحاول إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى علة أو مبدأ مشترك. ويقرر "كونت " أن الإنسان في هذه الحالة اللاهوتية قد مر عبر ثلاث مراحل :
-المرحلة الأولى : ويسميها المرحلة " الفتشية " وفي هذه المرحلة كان الإنسان يخلع على الأشياء والظواهر الطبعية من حوله نوعاً من الحياة, ويعتقد أن لها تأثيراً في حياة الناس وأنها تتصرف في مصائرهم. ومن ثم كان الإنسان في هذه المرحلة يعبد هذه الظواهر أو هذه الأشياء, ويتقدم إليها بأنواع من الطقوس دفعاً لضرها وطلباً لنفعها. ولعل " كونت " يشير إلى ما يذهب إليه علماء الاجتماع الملحدة إلى أن نشأة التدين لدى الإنسان ترجع إلى بضع نظريات منها ما يسمونه" غريزة الاستحياء" ويريدون بذلك نفس ما أشار إليه الفيلسوف من أن الإنسان الأول – فيما يزعمون – كان يستحيي الأشياء والظواهر , أي يرى أن لها نوعاً من الحياة , وأن لها قوى تؤثر بها في حياته, ومن ثم كان يعبدها.
المرحلة الثانية : من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة تعدد الآلهة المفارقة أو الآلهة العلوية . ويزعم الفيلسوف أن الإنسانية في هذه المرحلة أخذت تسلب الحياة وقوة التأثير عن الظواهر الطبيعية التي كانت تؤلهها وترجع القوة المؤثرة في الوجود من حولها إلى كائنات علوية غير منظورة وهي كائنات متعددة بتعدد شئون الحياة ؛ فإله للزرع وآخر للمطر وثالث للصيد وهكذا لكل لشأن من شئون الحياة إله علوي غير منظور .

المرحلة الثالثة : من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة ( التوحيد) ؛ فالرجل يزعم أن البشرية في هذه المرحلة قد جمعت جميع الآلهة التي كانت تعبدها ثم وحدتها في إله مفارق أي علوي غير منظور خارج عن عالمنا الذي نعيش فيه ، ويضرب الرجل مثالا لهذه المرحلة الأخيرة بظهور الدين النصراني والدين الإسلامي !
وقد رأى " كونت" أن من خصائص الحالة اللاهوتية وبخاصة في مرحلتها النهائية أن موضوعها مطلق وأن تفسيرها للظواهر والأحداث تعتمد " ما فوق الطبيعة " وأن منهجها خيالي وهمي ، وأن كل ما لدى أصحابها أمور ذاتية لا صله لها بالواقع أو الموضوع ، لكن الفيلسوف لاحظ شيئا آخر على قدر كبير وخطير من الأهمية ، حيث لاحظ أن الدين – أي دين – يمثل أساساً متينا وضروريا وحاجة ملحة للمجتمعات الإنسانية وللعلاقات الاجتماعية وأنها تمثل ضرورة اجتماعية على الفرد أو الجماعة ، كذلك لاحظ أن الدين – كذلك - يمثل من الجانب السياسي الأساس الذي تقوم عليه سلطة الكهنة والملوك حيث يستمدون سلطاتهم لدى الجماعة من الدين الذي تدين به الجماعة .
وهذه الملاحظة الأخيرة التي لاحظها " كونت " وهي ضرورة الدين للمجتمعات الإنسانية سيكون لها أعمق الأثر في فلسفته بعد ذلك – على ما سنرى بحول الله تعالى .
الحالة الميتافيزيقية :-
وفي هذه الحالة يحاول العقل الإنساني – أيضا - أن يكتشف حقائق
الأشياء وأصولها ومصائرها ولكنه في هذه الحالة بدلا من أن
يبحث عن علل مفاقة للظواهر كما فعل في الحالة الأولى ، فإنه يرفض العلل المفارقة ، ويبحث عن علل وأهداف في ذات الأشياء وبواطن الظواهر ، ففي هذه المرحلة لا يرجع العقل الإنساني حقائق الظواهر أو الأحداث إلى علل مفارقة ، وإنما يرجعها إلى نظم وقوانين وأسباب داخل الأشياء ذاتها .
ويرى الفيلسوف أن مسيرة العقل الإنساني ومنهجه في هذه الحالة إنما هي ضرب آخر من أضرب الوهم والخيال، وأن ذلك ناتج عن أوهام الذات التي لا صله لها بالواقع .
ويلاحظ الفيلسوف أن هذه الحالة الميتافيزيقية شبيهة بالحالة اللاهوتية من حيث موقف العقل الإنساني منهما . حيث بدأ الإنسان يعتقد في التعدد ثم انتهى بالتوحيد مع اختلاف الموضوع في الحالة الميتافيزيقية عنه في الحالة اللاهوتية .
ففي الحالة اللاهوتية اعتقد الإنسان في موجودات كثيرة ، ثم بدأ يرجع الظواهر إلى كائنات علوية مفارقة ، ثم انتهى به الأمر بتوحيد الكائنات المفارقة في كائن واحد . وهذه الكائنات المفارقة العلوية التي اجتمعت في واحد بعد ذلك كانت هي التي تتصرف في الأشياء والظواهر.
أما في الحالة الميتافيزيقية بدأ العقل الإنساني يبحث عن علل الأشياء والظواهر في الأشياء والظواهر نفسها ، وليس في كائنات علوية مفارقة . وقد بدأ الإنسان في هذه المرحلة بالتعدد أيضا ، فأخذ يرجع العلل إلى قوى متعددة بتعدد الظواهر مثل القوة المكيانيكية ، القوة الفيزيائية ، القوة الحيوية .. إلى غير ذلك من قوى متعددة ثم انتهى الأمر بالعقل الإنساني إلى توحيد هذه القوى المتعددة في قوة واحدة هي ( الطبيعة ) فالطبيعة أصبحت جامعة لكل القوى التي كانت متفرقة في الظواهر والأشياء .
الحالة الوضعية :-
يرى " كونت" أن العقل الإنساني في المرحلتين السابقتين كان يعيش حالات من الأوهام الذاتية والخرافات المتوارثة التي لا صله لها بالواقع . ولذلك كان يتخبط من الحالة اللاهوتية بمراحلها الثلاث ، ثم الحالة الميتافيزيقية ، لكن الأمر لا يستمر على ذلك بل أن العقل ينتقل من هذه الأوهام الذاتية إلى حقائق الحالة " الوضعية" .
والعقل في هذه الحالة الثالثة التي أطلق عليها كونت " الوضعية" يتخلص في الواقع من أوهام اللاهوت والميتافيزيقيا ، ويدرك الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع والموضوع . ويرى الفيلسوف أن السبب في تخبط العقل في الحالتين السابقتين أنه كان يبحث في الأشياء عن حقائقها وعللها المطلقة لكنه أخيرا يدرك أنه من المستحيل الحصول على حقائق مطلقة يقينية فيقصر همه على الاهتمام بواقع الأشياء واستكشاف قوانين الظواهر من خلال واقعها المادي الوضعي القائم على الملاحظة والتجربة.
3- وقد قرر " كونت" أن هذه الحالات الثلاث التي مرت على الإنسانية أو مر بها العقل الإنساني عبر رحلته الطويلة منذ كانت الإنسانية حتى عصره ، هذه الحالات تمر على الإنسان نفسه أو يمر بها كل إنسان عبر حياته أو مراحل عمره : ففي طفولته أو بداية حياته يقنع بالحلول اللاهوتية ثم في منتصف حياته يتحول إلى الحالة الميتافيزيقية فيبحث عن العلل وحقائق الأشياء في باطن الظواهر والأشياء . ثم في أواخر حياته حيث يكون قد نضج عقلا وفكرا ينتقل إلى الحالة الوضعية فيعتمد على ملاحظة الظواهر ويجري عليها التجارب متخذًا المنهج الوضعي طريقا للوصول إلى القوانين التي تحكم الأشياء .



بقوانين , ولا يستطيع اى مؤثر خارجى ( ولو كان هذا المؤثر هو
والحقيقة , فإن النظام الذى تسير فيه المراحل المختلفه للتطور محدد

الانسان نفسه ) ان يقلب هذا النظام او يبدله او يختصر احدى

المراحل التى يجب ان يمر بها . وكل ما يمكن القيام به هو العمل

على سرعة التطور , اى تمهيد السبيل لحدوثة فى سهولة ويسر وقد

يجد رجل الدولة المعتز بسطوتة وسلطانه , ان هذا الدور الذى يلعبه

الانسان فى التأثير على الظواهر الاجتماعية متواضع جدا . ولكن
الحقيقة هى ان تدخل الانسان حتى فى هذا النطاق الضيق يمكن ان
يكون ذا اهمية عظمى , شريطة ان يسترشد نور العلم .
وهكذا نخلص الى ان كونت يؤكد على ان التطور الانسانى سائر
حتما فى طريق التقدم , ويحذر من الانقلابات الثورية , وضرورة
العمل على تجنب مثل هذة التقلبات العنيفه مشيرا الى ان الفائدة
العلمية تكمن فى الكشف عن شروط النظام الاجتماعى فى حالة
استقراره والكشف عن قوانين التقدم والمكاسب التى يجنيها المجتمع
فى حاله تطورة .
فالاستاتيكا تهتم بشروط وجود المجتمع من خلال الكشف عن النظام
الذي يحكم الحياه الاجتماعيه ،أما الديناميكا فتدرس حركه المجتمع
من خلال الكشف عن حقيقه التقدم .
وبتعبير اكثر وضوحا فإن الاستاتيكا هى نظرية النظام الذى يشير
الى الانسجام والتوازن بين ظروف وجود الانسان فى المجتمع ,
بينما تعد الديناميكا نظريه فى التقدم الاجتماعى تهتم بدراسة النمو
الاساسى للمجتمع وتطورة .

والحقيقة فإن النظام والتقدم يرتبطان فيما بينها إرتباطا وثيقا
فلا يمكن اقامة نظام اجتماعى حقيقى ان لم يواكبه ويسانده نظام
اذن فالفصل بين الجانبين انما تمليه فقط الاهداف التحليلية كما ان
القوانين الاستاتيكية والديناميكية ينبغى ان ترتبط معا من خلال نسق
معين .
وهكذا ننتهي الي ان محاوله كونت الربط بين النظام والتقدم .هي محاوله للربط بين الفكر المحافظ المشتق من بونال وميستير ،والفكر النقدي الذي ترجع جذوره الي عصر التنوير ،ليخرج بشئ جديد هو الفلسفه الوضعيه التي اعتقد انه يمكن تنظيم المجتمع علي اساسها .ولكن برغم هذه المحاوله للربط بينهما ،الا ان كونت قد أولي اهتماما كبيرا للنظام وحصر كل حديث عن التقدم في قانون المراحل الثلاثه أو محاوله اكتشاف التغيرات الكبري في الحضاره الانسانيه .واكثر من ذلك فان التقدم والحركه يجب ان يكونا في خدمه الانسان العام ،فالحركه لايجب ان تؤدى الي انهيار وتفكك في النسق الاجتماعي .ويؤكد وجهه النظر هذه"جرن ركس .Rex J " حيث يقول بالرغم من ان كونت قد استفاد من قانون المراحل الثلاثه ومن فكرة الديناميكا الا جتماعيه الا ان اهم فصل في كل اعماله هو الفصل الذي كتبه عن الاستاتيكا الاجتماعيه . (11)
وبذلك يكون علم الاجتماع في نظر كونت هو علم النظام العام يعمل علي احداثه ثم يحاول تفسيره وتشريحه بعد ان ترسي دعائمه اما نظريته عن التقدم فقد لامست التقدم والتغير ملامسة سطحية ونستطيع ان نؤكد بذلك على اهتمام كونت بمشكلة النظام العام فى المجتمع من خلال بعض الشواهد التى يمكن ابرازها على النحو الاتى :

1) تخوف كونت تخوفا كبيرا من الروح النقدية السائده , فهاجمها هجوما كبيرا . فهذا النقد يترتب عليه نتائج غير تنظيمية , ويؤدى الى تحطيم النظم التى اكتسبت مكانتها عبر الزمن . فنقد العائلة الابوية , او نقد الواجبات الاجتماعية , يجعل المجتمع يفقد السلطة الاخلاقية ويؤدى الى حاله من الرعب والفوضى .
2) اعجب كونت اعجابا يفوق الحد بالماضى , خاصة مجتمع العصور الوسطى . وذهب الى القول بأن الكاثوليك المتزمتين لهم فضل كبير على الوضعيين وذلك لتمسكهم بثقافة العصور الوسطى . فضلا عن ذلك امتنع كونت اتباع بونال – وهو من الفلاسفة المحافظين – وذلك لإستخدامهم مبادئ وضعية فى تحليلهم للنظم وتاكيدهم على اولوية المجتمع على الفرد , اعتماد الفرد اجتماعيا على قيم المجتمع ونظمة .
3) الاتساق العام فى المجتمع هو اساس النظام والتقدم .فالاستاتيكا الاجتماعية هى دراسة لإرتباط الظواهر بعضها بالبعض الاخر , واجزاء المجتمع لايمكن ادراكها منفصله من بعضها كما لو كان لكل منها وجود مستقل . وعلينا بدلا من هذا ان ننظر اليها على اعتبار انها ترتبط بينها علاقات متبادله , وانها تكون كيانا كليا يفرض علينا ان نتناولها فى علاقتها ببعضها البعض . وفى هذا الصدد يقول كونت يجب ان يكون هناك تناغم مستمر بين الكل وبين الاجزاء فى النسق الاجتماعى الذى يجب ان تترابط عناصرة بالضرورة فى جو متوافق توافقا كليا مع طبيعة هذة العناصر ولا يتحقق هذا التناغم تحققا كليا , الا انه قائم على اى حال : فبدونة يتحلل الكائن العضوى الاجتماعى تحللا كليا .
4) المجتمع هو صانع الفرد , ومن ثم يجب ان يخضع الفرد للمجتمع خضوعا تاما . وبناء على ذلك , فإن وحدة الدراسة فى علم الاجتماع هى الجماعه وليس الفرد . ففكرة الشخصية الفردية الخالصه فكرة منطقية من الناحية السيكولوجية , فالوحدة الاساسية فى المجتمع هى الاسرة التى تشكل شخصية الفرد . يقول كونت : مثلما يتكون كل نصق من عناصر ذات طبيعه واحده فإن الروح العلمية تمنعنا من ان نعتبر المجتمع حشدا من الافراد , فالوحدة الاجتماعية الحقيقية هى الاسرة التى يمكن ان نردها الى الزوجين على اساس انهما يكونان قاعدتها الاساسية .
5) يؤدى تقسيم العمل الى مزيد من الترابط , فرؤساء الاسر يرتبطون مع بعضهم من خلال تقسيم العمل ولكن تقسيم العمل قد لا يؤدى الى تحقيق هذا الهدف , ومن هنا تظهر اهمية الدولة التى لابد وان تفرض رقابة سياسية وفكرية لضمان تحقيق التكامل . ولقد ضمن كونت تحت تقسيم العمل التفرقه بين الملاك وغير الملاك , ولكنه لم بتخوف من الصراع الطبقى بينهما , وبقدر ما تخوف من الفشل فى تحقيق التكامل بين المهن .
نقد فلسفته الوضعية:-

1- من الملاحظ – ابتداء – أن الفيلسوف " كونت" وهو يتكلم عن فلسفته الوضعية يقدم لها بما افتراه من قانون الحالات الثلاث وغيرها ، نقول : نلاحظ كما لاحظ غيرنا أن الرجل يصدر عن فكر نظري بحت . وعن أوهام ذاتية خالصة لا صله لها بالواقع ولا بالموضوع . وبذلك أضحى – وهو الذي ينعى على الأوهام الذاتية ويدعو إلى الوضعية – مثالا واضحا أو نموذجا فاضحا لهؤلاء الذين يعيشون أسرى الأوهام الذاتية من جانب ثم يصدرون في فكرهم عن أبحاث نظرية لا صله لها بالواقع أو الموضوع من جانب آخر ،وبذلك فقد الفيلسوف مصداقيته من اللبنة الأولى للنظرية التي أقام عليها فلسفته .
وقد وقع الفيلسوف في هذه المناقضة الواضحة بين ما يدعو إليه والحقيقة التي هو عليها فعلا حين أقام نظريته في قانون التقدم الإنساني الذي أطلق عليه " قانون الحالات الثلاث" على فكر نظري خيالي بحت ، دون أن يعنى بدراسة المجتمعات الإنسانية في بيئاتها المختلفة ، وأقاليمها المتعددة . ودون أن يعطي الحضارات الدينية والوحي الإلهي لدى المتدينين حقه من حيث البحث والنظر والتحليل والتحقق . كما سيتضح لنا في الفقرات التالية من النقد – بحول بحول الله تعالى ..
2- ينظر " كونت " إلى المجتمعات الإنسانية على أنها بناء واحد ذو لبنات متماثلة ، أو أنها كلٌ لا يتجزأ ، وأن تطورها وتقدمها يخضع لقانون واحد ونمط معين لا يختلف ، بينما الواقع يكذب الذي ذهب إليه الرجل ، ويبين أن المجتمعات تختلف اختلافا بينا في أنماطها الحياتية وأساليبها المعيشية ومستوياتها الثقافية والحضارية مما يجعل إخضاعها جميعها لقانون واحد في التقدم أو التطور أمرا بعيدا عن الواقع والموضوع ويجعل ذلك وهما ذاتيا أو افتراضا خياليا لا يمت للواقع بصلة .
3- مما يؤكد ما قلنا أن الحالات الثلاث التي ذكرها الرجل وأقام عليها نظريته لا تبدو متعاقبة في المجتمعات الإنسانية كما ذكرها بل تختلف المجتمعات فيما بينها من حيث مرورها بهذه الحالات الثلاث ، ومن حيث ترتيبها – إن هي وردت - ؛ فبعض المجتمعات يسير فيها الفهم العلمي للظواهر والأشياء متساويا مع الالتزام الديني أيا كان حظ الدين من الحق أو الباطل ، وذلك كالغرب النصراني ، أو الشرق الهندوسي . وبعضها يسير الفهم العلمي بعيدا عن الدين كما كان الحال في روسيا الشيوعية قبل أن تسقط الشيوعية وترمى في مزابل التاريخ .
فالحالة الوضعية – كما يسميها الفيلسوف – لم تأت على أنقاض الحالة اللاهوتية بل صاحبتها في جملة المجتمعات الإنسانية عدا المجتمعات الشيوعية التي ما إن زالت الشيوعية عنها حتى عادت إلى ما أسماه الفيلسوف " الحالة اللاهوتية " وعاد الناس كلُ ذي دين إلى دينه .
4- وحتى الحالة اللاهوتية - كما أسماها الرجل – لا تسير في نفس المراحل الثلاث التي ذكرها . فلم تبدأ الإنسانية في جميع المجتمعات بالتعدد ثم تنتهي جميعها بالتوحيد . بل هناك مجتمعات تقدمت في مسيرتها العلمية – أو الوضعية – وهي مازالت متمسكة بدينها الوثني القائم على التعدد ، كما في الهند واليابان وما يماثلها
5- وفيما يتصل بالمراحل الثلاث التي ذكرها الرجل للحالة اللاهوتية فإن الرجل عكس الأوضاع وقلب الحقائق حين زعم أن التعدد هو الأصل وأن التوحيد طارئ في آخر المراحل .
فالحق الذي ندين به ، بل ويدين به أصحاب الدينين الكتابيين " اليهود والنصارى" أن التوحيد هو الأصل وهو الصورة الأولى للدين في تاريخ البشرية ، فنحن نؤمن بأن أبا البشر آدم عليه السلام قد خلقه الله – تعالى –وأهبطه إلى الأرض نبيا ، فهو – عليه السلام – أول الأنبياء ، وهو أول البشر ، والدين الذي جاء به هو دين التوحيد لله رب العالمين ، لا شريك له ، وعلى دين آدم عليه السلام كان أولاده ولم يحدث التعدد والوثنية إلا من بعد نوح عليه السلام .
فالتوحيد – إذن – هو أصل الدين في الإنسانية والتعدد هو الطارئ الذي جاء بعد التوحيد . على هذا عقيدتنا وكذلك يعتقد اليهود ، ويعتقد النصارى.
وإذا كان ذلك ، فمن أين وقع الخلط عند الفيلسوف ؟ وما منشؤه ؟ إن الفيلسوف وقع في هذا الخطأ وفي جميع الأخطاء التي شاعت في فلسفته كلها فلم تترك فيها شذرة واحدة من فكر الرجل إلا وهي بينة الخطأ واضحة الفساد ، نقول إنه وقع في ذلك الخطأ وهذه الأضاليل بسبب إلحاده وكفره بالدين النصراني ، وبالأديان جميعها بعامة ، وليس ضلاله هو نوعية الدين الذي يكفر به ، فدينه النصراني باطل ـ لكن رغم بطلانه كان أفضل من إلحاد الرجل وضلاله الذي يجعله يرى أن الأديان كلها فاسدة ، وأنها ظاهرة اجتماعية لا أصل لها ، كما أنها من أوهام الذات وأساطير المجتمع لا صله لها بالواقع ، ومن هنا أقام الرجل فلسفته على هذا الأساس الذي يرى أن جميع الأديان باطلة وأنها من أوهام الذات, واختراع الإنسان .
6- ومن أسباب ضلال الرجل أنه وجد في وقت وزمان كان الناس في حالة افتتان بالعلم وانصراف عن الدين. إذ من المعلوم أن القرون الميلادية : السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر كانت كلها قرون افتتان الناس بالعلم, وانتشار الفلسفات والنظريات الإلحادية, وكان الرجل في هذا ابن بيئته وزمانه ومجتمعه, فكان ملحداً شديد الإلحاد, مفتوناً أشد ما يكون الافتتان بالعلم المادي وطرائقه من الملاحظة والتجربة والفروض والقوانين وغير ذلك. وقد ظن الرجل- كما ظن معاصروه – أن الدين إلى زوال وأفول, وأن الإلحاد إلى انتشار وشمول, ولكن الذي حدث إنما كان على عكس ما توقع الرجل ومتابعوه على " وضعيته ".
فإنه من بدايات القرن العشرين بدأ الناس يثوبون إلى أديانهم, كل إلى دينه, وبدأت مسيرة الإلحاد تبطئ وتتلاشى تدريجياً, حتى عاد الأمر طبيعيا, وبدأت – مساوقة للعودة إلى الدين – الكثير من أصوت الماديين تختفي أو تضعف.
7- وفي ختام نقدنا فلسفة " كونت" الوضعية, أو الفلسفة الوضعية ممثلة في شخص أول من نظّر لها وقعّد لمبادئها. نستطيع أن نبين بوضوح أهم ما وقع فيه الرجل ومشايعوه من أخطاء كانت السبب في فساد فكرهم, وأفول فلسفتهم, وأهم ذلك كله خطآن كبيران :
الأول : أن الرجل لم يدرس المجتمعات البشرية كلها, بل ولا الكثرة منها, بل اكتفى بدراسة أحوال المجتمعات الغربية, وبخاصة المجتمع الفرنسي في زمانه, الذي كان يشيع فيه الإلحاد والمادية, فوضع نظريته بناء على دراسته هذا المجتمع, وطبق نظريته على المجتمعات الإنسانية جميعها, ظانا أنها كلها صورة للمجتمع الذي درسه. وهذا خطأ فاحش, ومنهج فاسد أدى إلى فساد النظرية- كما أشرنا قبلا-.
الثاني :أن الرجل كما اقتصر على دراسة مجتمع واحد ثم عممه على جميع المجتمعات, كذلك اقتصر على دراسة فترة زمنية معينة, وظن أن ما يجري في هذه الفترة الزمنية هو المقياس والمثال لجميع ما يجد من عصور وظروف وملابسات, وأن ما عاصره من ظواهر اجتماعية في بلده ومجتمعه وفي نهاية الفترة سوف يكون هو بعينه في كل الأزمان والعصور التي تجد حتى نهاية الدنيا. ولكن لو طال بالرجل العمر بضعة عقود فقط لرأى وعاش فشل جميع آرائه ونظرياته.