منع الشفاه من قول الإنسان خليفة الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الباعث على كتابة هذه الكلمة هو التحذير من مقولة شائعة يرددها البعض ، وهى مقولة الإنسان خليفة الله فى الأرض فهذه المقولة ورد ما يدل على منعها ،وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره أي لا نحكم على شيء إلا بعد معرفة ماهيته أي بعد أن نعرف ما هو؟ فسنبين إن شاء الله معنى خليفة أولاً ثم قول الفقهاء في إطلاق خليفة الله ثانياً ثم نذكر القول الراجح ،وسبب الترجيح هدانا الله إلى الحق ووفقنا إلى إصابته . أولاً : معنى خليفة : أخوتاه الخليفة هو من يخلف غيره ،وسمي السلطان خليفة ؛لأنه يخلف من قبله ،وقال ابن عباد : الخَلِيفةُ : مَن اسْتُخْلِف مكانَ مَنْ قَبْلَه . وقَوْله تعالى : ﴿ جَعَلَكُم خَلائفَ الأرض ﴾ أي مُسْتَخْلَفِيْنَ فيها [1]، وقال الفيومي : الْخَلِيفَةُ بِمَعْنَى السُّلْطَانِ الأَعْظَمِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلاً ؛ لأنَّهُ خَلَفَ مَنْ قَبْلَهُ أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولاً ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ خَلِيفَةً أَوْ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ بَعْدَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ﴾ . قَالَ بَعْضُهُمْ وَلا يُقَالُ خَلِيفَةُ اللَّهِ بِالإضَافَةِ إلا لآدَمَ وَدَاوُد لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ . وَقِيلَ يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ خَلِيفَةً كَمَا جَعَلَهُ سُلْطَانًا ،وَقَدْ سُمِعَ سُلْطَانُ اللَّهِ وَجُنُودُ اللَّهِ وَحِزْبُ اللَّهِ وَخَيْلُ اللَّهِ وَالإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلابَسَةٍ[2] ، وقال ابن منظور: والخَلِيفةُ الذي يُسْتخْلَفُ ممن قبله..... قال الزجاج جاز أن يقال للأَئمة خُلفاء الله في أَرْضِه بقوله عز وجل ﴿ يا داودُ إنَّا جَعَلْناك خَلِيفةً في الأرض﴾ وقال غيره الخَليفةُ السلطانُ الأَعظم[3] وقال الزبيدى : والْخَلِيفَةُ : السُّلْطَانُ الأَعْظَمُ يَخْلُفُ مَن قَبْلَه ويَسُدُّ مَسَدُّهُ[4]،و قال الأصفهانى : ( والخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف ، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه فى الأرض ، قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ﴾[5] )[6] . ثانياً : قول الفقهاء في إطلاق خليفة الله على شخص : أخوتاه اختلف الفقهاء فى إطلاق كلمة خليفة الله على شخص على ثلاثة أقوال : الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والجواز مع التفصيل : الجواز مطلقاً : واحتج بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾[7] ،وبقوله تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾[8] وبحديث الكميل عن علي ) : أولئك هم الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر ، فباشروا روح اليقين ، واستسهلوا ما استوعر منه المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالنظر الأعلى يا كميل أولئك خلفاء الله في أرضه الدعاة إلى دينه هاه شوقاً إلى رؤيتهم استغفر الله لي ولك )[9] ، وبحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم قال : قال رسول الله r« إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها » ، و بحديث « يقتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ، ثم لا يصير إلى واحد منهم ، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم ، ثم ذكر شيئا لا أحفظه فقال : فإذا رأيتموه فبايعوه و لو حبوا على الثلج ، فإنه خليفة الله المهدي - و في رواية - إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها و لو حبوا .. » رواه ابن ماجة في سننه ، وبحديث : « من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، هو خليفة الله في الأرض ، وخليفة كتابه ، وخليفة رسوله »[10]. و بحديث : « إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي » . رواه أحمد و البيهقي في دلائل النبوة . وقال المناوى : قال الحراني : ( والخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب مرتبة ذلك الخليفة منه ) انتهى ،وكل من استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم فهو خليفة لكن لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتنفيذ أمره (فإن قلت) ما حكمة إضافته إلى الله وهلا قال الخليفة ؟ قلت هو إشارة إلى أنه إنسان كامل قد تجلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل ومحل الاجتهاد والفتوة بحيث لم يفته إلا مقام النبوة وفيه رد على الطيبي كمتبوعه في ذهابهم إلى امتناع أن يقال خليفة الله لغير آدم وداود عليهما السلام[11] . المنع مطلقاً :واحتج بقول أبى بكر لما قيل له يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ فَقَالَ أَنَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ r ، وَأَنَا رَاضٍ بِهِ رواه أحمد رقم 56 ، وقال ابن تيمية : ( الله لا يخلفه غيره ، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب ، وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقهلا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره ، وهو سبحانه خلق الأسباب والمسببات جميعا ، وهوسبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله . ويروى أنه قيل لأبي بكر يا خليفة الله ،فقال : بل أنا خليفة رسول الله ، وحسبي ذلك )[12] ، وقال الماوردى : ( وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ ( قلت أي قول خليفة الله على السلطان ) وَنَسَبُوا قَائِلَهُ إلَى الْفُجُورِ وَقَالُوا : يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ ،وَاَللَّهُ لا يَغِيبُ ،ولا يَمُوتُ ، وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ ، فَقَالَ : لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ r )[13]، وقال النووي : ( ينبغى ألا يقال للقائم بأمر المسلمين خليفة الله بل يقال : الخليفة : وخليفة رسول الله r وأمير المؤمنين )[14]. وقال ابن علان : ( قولهولا يسمى أحد خليفة الله تعالى في شرح الروض : لأنه يستخلف من يغيب أو يموت ،والله منزه عن ذلك . وقضية هذه العلة امتناع ذلك حتى على آدم وداود ، والآيتان[15] ليسفيهما إطلاق خليفة الله على كل منهما ، إنما فيهما إطلاق خليفة ، مجرداً عن الإضافة، وذلك جائز على كل إمام للمسلمين ، ولم أر من نبه على هذا )[16] .
الجواز مع الكراهة : حيث إضافة الخليفة إلى الله تحتمل معنيان الخلافة عن الله ،وهذه ممتنعة ،واستخلاف الله للشخص عن غيره من الأشخاص فإن أريد بالإضافة إلىالله : أنه خليفة عنه ، فهذا لا يجوز ، وإن أريد بالإضافة : أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله ، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة ، وحقيقتها : خليفة الله الذي جعله الله خلفا عن غيره ، و بهذا يخرج الجواب عن قول على رضي الله عنه : أولئك خلفاء الله في أرضه ، و قال ابن القيم : وَمِمّا يُكْرَهُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِلسّلْطَانِ خَلِيفَةُ اللّهِ أَوْ نَائِبُ اللّهِ فِي أَرْضِهِ فَإِنّ الْخَلِيفَةَ وَالنّائِبَ إنّمَا يَكُونُ عَنْ غَائِبٍ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلِيفَةُ الْغَائِبِ فِي أَهْلِهِ وَوَكِيلُ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ[17] . ثالثاً : ترجيح قول الجمهور بالمنع : أخوتاه اعلموا أن القول الراجح هو منع إطلاق كلمة خليفة الله على شخص لما يلي: 1- كلمة خليفة الله ،وإن قصد بها من استخلفه الله عن غيره أى جعله الله ففيها إيهام بأن الشخص خليفة عن الله في الأرض ،وهذا باطل . 2– القول بالمنع والجواز حسب إرادة المتكلم إن قصد خليفة عن الله فيمتنع ،وإن قصد جعله الله خليفة عن غيره فجائز لا يصح فهذا يعتمد على نية المتكلم لا على المعنى المتبادر للذهن بالنسبة للسامع ثم هذا القول يحتاج لدليل ، و قول على رضى الله عنه ليس فيه إطلاق خليفة الله على أى شخص بل إطلاق خليفة الله على أهل الحق المتمسكين به الدعاة إلى الله فنسبة الشيء إلى الله تفيد تعظيمه ،وتشريفه فالشيء المنسوب إلى الله ليس كأي شىء ؛ لأنه منسوب إلى العظيم عز وجل ثم هذا القول معارض بقول أبى بكر ، وإذا اختلف الصحابة علينا باتباع من وافق قوله الدليل ، وقول أبى بكر رضي الله عنه موافق للدليل فالله جعل الناس يستخلف بعضهم بعضاً لا يستخلفونه ، ولا يوجد حديث صحيح صريح عن النبي r فيه إطلاق خليفة الله على شخص ،ولو سلمنا جدلاً بصحة هذه الأحاديث فإطلاق خليفة الله لا تكون إلا على أهل الصلاح فالحديث الذي فيه : ( فإنه خليفة الله المهدي ) حديث ضعيف[18]قال الألباني : ( و هذه الزيادة خليفة الله ليس لها طريق ثابت ، و لا ما يصلح أن يكون شاهدا لها ، فهي منكرة كما يفيده كلام الذهبي السابق ، و من نكارتها أنه لا يجوز في الشرع أن يقال : فلان خليفة الله ، لما فيه من إيهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص و العجز ، و قد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى )[19] ومع التسليم بصحته فليس فيه إطلاق قول خليفة الله على أي أحد بل على المهدي الذي يحكم بالعدل بين الناس الذي يكون المسيح عليه السلام مؤتماً به فى يوم من الأيام فكيف يكون صلاحه ؟!!،وأيضاً لو صحت هذه الرواية لدلت على جواز إطلاق خليفة الله على السلطان لا على أي إنسان ؛ لأن الخليفة جعله الله خليفة في أرضه ؛ لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياهأى إطلاق خليفة الله على السلطان مجازاً،والرواية التي فيها : ( خليفة الله في الأرض ) قال عنها الألباني عند تعليقه على الحديث رقم 2739 فى السلسلة الصحيحة : مستنكرة ،والحديث الذى فيه : (فإن فيها خليفة الله المهدي ) قد رواه أحمد و البيهقي في " دلائل النبوة " ضعيف[20] ،والحديث الذى فيه : ( فإن الله مستخلفكم فيها ) ليس فيه أنهم خلفاء الله بل غاية ما فيه أن الله جعلهم خلائف يخلف بعضهم بعضاً ،وعلى هذا يبقى الأمر على التحريم . 3- لا يوجد نص صحيح صريح يؤيد ما قاله المجيزون بل أدلتهم إما صحيح غير صريح كالاستدلال بالآيتين قوله تعالى ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ فغاية ما فى الآية أن الله جعل آدم وداود عليهما السلام خليفتين ،وليس فيهما أنهما خليفان لله ،واستدلالهم بحديث : « إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها » فليس في الحديث أن الصحابة خلفاء الله بل غاية ما فيه أنهم خلائف يخلف بعضهم بعضاً ،وإما يستدلون بنص ضعيف غاية ما فيه إطلاق خليفة الله على أهل الصلاح ،وليس على كل الناس ،وإما يستدلون بأثر عن صحابي غاية ما فيه إطلاق خليفة الله على أهل الصلاح ،وهو معارض بقول صحابى أخر،ولهذه الأسباب يكون الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم بمنع هذه الكلمة هذا والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات. وكتب ربيع أحمد سيد طب عين شمس الفرقة السادسة الجمعة 29 /12/2006 م
[1] - المحيط في اللغة للصاحب بن عباد مادة خلف
[2] - المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير للفيومي مادة خلف
[3] - لسان العرب مادة خلف
[4] - تاج العروس للزبيدي مادة خلف
[5] - الأنعام من الآية 165
[6] - غريب القرآن للأصفهاني 1/156
[7] - البقرة من الآية 30
[8] - ص من الآية 26
[9] - كنز العمال 10/264 صححه الشيخ بكر حياني مؤسسة الرسالة 1409 هـ
[10] - كنز العمال 3/75
[11] - فيض القدير 1/466 صححه أحمد عبد السلام دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م
[12]- منهاج السنة لابن تيمية 1/ 509
[13] - الأحكام السلطانية للماوردي فصل إذا استقرت الخلافة
[14] - الأذكار للنووى ص 452 حققه أحمد عبد الله باجور طبعة دار الريان للتراث الطبعة الأولى 1408 هـ
[15]- قلت يقصد قوله تعالى ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾
[16]- الأذكار لابن علان 4/82 طبعة دار الفكر
[17] - زاد المعاد لابن القيم 2/434
[18] - ذكره الألبانى فى السلسلة الضعيفة رقم 85 وضعفه أيضا فى سنن ابن ماجة حديث رقم 4084 ،وفى ضعفه فى صحيح وضعيف الجامع رقم 14570 وفى ضعيف الجامع رقم 6434
[19] - السلسلة الضعيفة 1/ 162 عند تعليقه على حديث رقم 85
[20] - قال الألباني ضعيف فى مشكاة المصابيح رقم 5461 ،وضعفه أيضاً فى صحيح وضعيف الجامع رقم 1519 ،وفى ضعيف الجامع رقم 506