مواءمة سوق العمل لمخرجات التعليم العالي .. وليس العكس..!
د. عدنان بن عبد الله الشيحة - 15/07/1428هـ
aashiha***********
منذ البدء بسياسة توطين الوظائف رفع شعار "مواءمة مخرجات التعليم لمتطلبات سوق العمل"، مقولة يتحجج بها للهروب من الالتزام بتوظيف المواطنين في الشركات الخاصة أو إلغاء بعض البرامج الأكاديمية في الجامعات الحكومية. وأيا يكن الأمر، فالمقولة تنطوي على فلسفة أن التعليم الجامعي يلزم أن يتبع سوق العمل وليس العكس. مثل هذه الفلسفة والرؤية تفترض أن القطاع الخاص بلغ من النضج وحد الكمال ما يؤهله لأن يوجه ويحدد متطلباته المعرفية والمهارية من مؤسسات التعليم العالي. وحقيقة الأمر أن الهيكل الاقتصادي الوطني في معظم قطاعاته مازال بسيطا، فيما عدا بعض المشاريع الإنتاجية الحكومية المتعلقة بقطاع البترول. فمازالت معظم الصناعات استهلاكية تجارية وليست صناعات تحويلية رأسمالية. كما أن قطاع التصنيع يعتمد على مصانع متشرذمة لا رابط بينها ولا تمثل روافد لصناعة بعينها. وهكذا لا يوجد في أغلب الحالات صناعات أساسية تصديرية وإنما مصانع صغيرة لا ترابط بينها. هذا الوضع الإنتاجي البسيط والتركيز على الصناعات الاستهلاكية وما تتطلبه من مهارات بسيطة، وبالتالي أجور منخفضة أدى إلى الاعتماد على العمالة الأجنبية غير المتخصصة رخيصة الأجر.
إن ضعف الصناعات وانخفاض القدرة الإنتاجية وضآلة حجم المصانع وعدم وجود صناعات واضحة الاستراتيجية والمعالم وأهداف للنمو والتوسع والتطوير لم يجعل القطاع الخاص مهيأ لاستيعاب مخرجات التعليم العالي من ذوي الكفاءات والمؤهلات المهنية والتخصصات الأكاديمية. إن توظيف خريجي التعليم العالي يتطلب هيكلا اقتصاديا أكثر تطورا وأكبر حجما وأكثر عدلا في توزيع الدخل، ما يمكن من دفع أجور تتناسب مع القدرات المهارية والمعرفية لهؤلاء الخريجين. إن خريجي مؤسسات التعليم العالي وعلاقتهم بسوق العمل أشبه ما يكون بسيارة يراد قيادتها دون أن تهيأ لها الطرق وتنظم حركة السير وتوضع معايير استخدام الطريق! لا نستطيع بأي حال من الأحوال تحميل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى تبعات ضعف الهيكل الاقتصادي وبساطة القطاع الخاص وعدم مسايرته للتطورات العالمية والارتقاء بمستوى التصنيع والمعاملات التجارية. إن العالم من حولنا يتحول إلى الاقتصاد الرقمي والمعرفي والقطاع الخاص مازال يراوح بين تجارة العقار ومصانع البطاطا المقلية ومعجون الطماطم والعصيرات وغيرها من المواد الاستهلاكية.
إن السبب الحقيقي وراء البطالة يكمن في أن الدخل الوطني لا يعكس في واقع الأمر الإنتاج الوطني. أي أن الدخل الوطني هو في الغالب ليس نتاج الجهد العضلي والفكري وإنما يتعلق بمستوى أسعار البترول في السوق العالمية ارتفاعا وانخفاضا. ومن هنا تولد وهم بأن الاقتصاد الوطني بلغ مستوى من القوة الصناعية والتجارية ما يؤهله للمنافسة والتوسع والنمو والتصدير، ولكن ينقض ذلك معدل البطالة العالي بين العمالة الوطنية، وإلا كيف يفسر عجز هذا الاقتصاد القوي المتنامي والمتطور عن استيعاب خريجي مؤسسات التعليم العالي؟ صحيح أن الاقتصاد الوطني ضخم وغني بالموارد إلا أنه يراوح مكانه حبيس الاستهلاك الآني دون استراتيجية وطنية واضحة المعالم ترسم المستقبل وتوضح الاتجاه وتحدد ماذا نريد أن نكون عليه كمجتمع بعد ثلاثين سنة من الآن؟! وعلى أساسها يتم تطوير الخطط والتشريعات والبرامج والمشاريع وإعداد الكوادر المؤهلة التي تحقق الهدف الاستراتيجي وتسهم في الوصول إليه. دون استراتيجية وطنية سيترك الأمر إلى الاجتهادات الشخصية والدوافع الخاصة دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيق أهداف مستقبلية والإسهام في بناء الاقتصاد ونقله إلى مراحل متقدمة من التطوير والتوسع والقوة الصناعية. إن غياب الاستراتيجية الوطنية أدى إلى التشرذم وعدم وضوح المصلحة الجماعية وصياغة رؤية مشتركة توجه الجهود والموارد. الأدهى والأمر أن غياب الاستراتيجية خلق مناخا من الأنانية والتسابق المحموم على اقتسام الكعكة الاقتصادية دون الإسهام في تكبيرها واستمرارها، بل الاستعجال في جني الأموال وقتل البطة التي تبيض ذهبا. هذا الوضع أدى إلى ترسيخ مفهوم "أخذ الكثير بأقل القليل" والتضحية بالجودة ومن ثم التراخي في تطبيق المعايير المهنية في مكان العمل ما يعني متطلبات أقل من الموارد البشرية عددا وكفاءة وبالتالي فرص عمل أقل.
لقد أصبح كثير من المهن والوظائف يقوم بها غير المتخصصين ولم يعد هناك معايير مهنية صارمة لأداء الأعمال، ولذا لم يكن مستغربا غياب الوصف الوظيفي أو عدم تطبيقه، وبالتالي نجد أن هناك من يعمل في وظيفة لا يملك مؤهلاتها ولا يحقق شروطها! هكذا نشأت البطالة لأن الخريجين ينافسون من هم أقل تأهيلا أو أن يعينوا بوظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم ومن ثم منحهم أجورا أقل مما يستحقونه بكثير. كمخرج لأصحاب الأعمال صاروا يتغنون بعبارة "عدم مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل"، لكن ما ذنب الخريجين إذا كان سوق العمل لم يرتق لاستيعاب مهارتهم حتى أصبحت سياسة توطين الوظائف تراوح بين سائقي سيارات الأجرة وبائعين في سوق الخضار واستجداء رجال الأعمال تارة والضغط عليهم تارة أخرى في أن يحشروا عددا من العمالة الوطنية حشرا، بغض النظر عن المستوى الوظيفي والمؤهل. المهم في الأمر أن تشير الإحصائية أن عددا من المواطنين تم توظيفهم فقط لا غير!
أما الجامعات التي يبدو أنها صدقت مقولة "مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل" التي ترجمت ذلك إلى إلغاء أو التقليل من تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية والتوسع في التخصصات العلمية التطبيقية في محاولة للاستجابة للمتطلبات الوهمية للقطاع الخاص، وبشكل أدق وأكثر صراحة أكذوبة القطاع الخاص. أن هذا التوجه في سياسات الجامعات توجه خطير ومنزلق يقود إلى تبعات كبيرة، ذلك أن المشكلة الأساسية التي تواجه المجتمع هي ليست في فهم النواحي الفنية التقنية وتطوير المشاريع العمرانية وحسب، وإنما في إعادة تثقيف المجتمع من خلال تربية الأفراد وتطوير نظرتهم الإيجابية نحو الحياة وفهم المجتمع من الناحيتين الاقتصادية والسياسية وثقافة العمل والصدق والانضباطية والقدرة على القيادة وإحداث التغيير وفهم الآخرين والتعامل معهم. إن كثيرا مما نعاني منه في المجتمع خاصة فيما يتعلق بالجريمة والمخدرات والإرهاب هو نتيجة حتمية لعدم استكشاف النفس والمجتمع. إن العلوم الاجتماعية والإنسانية تلبي هذه الاحتياجات وتزود الطالب والطالبة بالمفاهيم والنظريات التي تساعدهم على فهم واقعهم وتفسير ما يجري من حولهم وتمكنهم من صناعة القرارات الصحيحة الرشيدة. في كثير من دول العالم المتقدم الذي سبقنا بمراحل لم يتم إلغاء أقسام التاريخ والجغرافيا ولا علوم الاقتصاد والإدارة والسياسة ولا غيرها من العلوم الاجتماعية، بل على العكس تماما توسعت أكثر في مقابل اشتداد المنافسة العالمية واحتياجهم لفهم والتعامل مع المجتمعات الأخرى ولتتمكن من وضع تنافسي أفضل. المشكلة ليست في التخصصات، بل تكمن في كيفية توظيفها في المجال الصحيح ومن قبل ذلك كيفية تدريس التخصص منهجا وأسلوبا. العيب ليس في تخصصات العلوم الاجتماعية بل في التطبيق والفهم الصحيح لها ومتابعة تطوراتها. على سبيل المثال تخصص الجغرافيا من أقوى التخصصات الذي يسهم في التخطيط المكاني، وهناك برنامج حاسوبي يعرف بنظم المعلومات الجغرافية يمكن من تمثيل المعلومات المكانية على خرائط تسهل التعرف على الاحتياجات المجتمعية، لها استخدامات مدنية وعسكرية قيمة، إلا أن لدى البعض مفهوم ضيق للجغرافيا يتمثل في التضاريس والمناخ والموارد الاقتصادية للبلدان وحسب. وهذا سببه عدم تطوير تدريس الجغرافيا بما يمكن تطبيقه والاستفادة منه في الحياة العملية. وقس على ذلك جميع العلوم الاجتماعية التي يلزم تدريسها بطريقة جديدة ومبتكرة ومرتبطة بالواقع فهما وتفسيرا وتحليلا.
هناك أمر آخر في غاية الأهمية وهو أن مهمة التعليم العالي هو تخريج طلاب وطالبات قادرين على التعلم والتحليل وفهم المتغيرات والتفكير الإبداعي والبحث عن حلول وبدائل وليس فقط تحصيل مجموعة معلومات ومفاهيم لا تستطيع احتواء جميع الحالات ولا التعامل مع جميع الأوضاع. من هنا كان لزاما على القطاع الخاص تدريب الخريجين على أداء أعمال بعينها، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إلمام الطالب والطالبة بكل تفاصيل المسألة. فهل سيسعى القطاع الخاص لموائمة مكان العمل لمخرجات التعليم العالي؟! وهل قيادات مؤسسات التعليم العالي لديها البصيرة والشجاعة لترى الأمور على حقيقتها وتعيدها إلى نصابها؟! وترفع شعار "مواءمة مكان العمل للخريجين..!".
==================================
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=6364
الاقتصادية
الجمعة, 04 شعبان 1428 هـ الموافق 17/08/2007 م - - العدد 5058