من بريدي
"الأبحاث العلمية أصبحت موضة مثل تسريحة الشعر واللبس والسيارة والحكاية.. كلها قص ولصق"، تعبير نسمعه جميعا في أي مؤسسة علمية أو تعليمية من الطلاب الدراسين وحتى من الأساتذة.. ولكي نعرف سبب هذا التعبير يجب أن نبدأ القصة من البداية.
البحث العلمي يحمل الكثير من المعاني مثل التصنيف والتنظيم والدراسة والتحليل والابتكار والإبداع والتجديد والصناعة والتعرف على معلومة مجهولة، وهو في النهاية محاولة لحل مشكلة أو وصف حالة أو تفسيرها أو التنبؤ بها، والهدف من ذلك أن يصب ذلك في مصلحة الناس والمجتمع المحيط بشكل أو بآخر، ولكن بالتطبيق على أرض الواقع نجد أن الأمر في أغلب الأحوال ليس إلا عملية القص واللصق بهدف الحصول على الدرجة العلمية؛ حتى إن البعض يقدم رسائل وأبحاثا قُدمت من قبل مع بعض التغييرات الشكلية؛ مما دفع معهد البحوث والدراسات العربية إلى رفع إعلان للطلاب والباحثين المتقدمين، هذا نصه: "لوحظ في الآونة الأخيرة تقدم العديد من الطلبة الراغبين في استكمال دراستهم بالمعهد لدرجة الماجستير بخطط بحثية لا تراعي القواعد العلمية المتعارف عليها في إعداد الرسائل العلمية؛ ولذا فإن إدارة المعهد تلفت نظر الطلبة الراغبين في التسجيل بالمعهد لدرجتي الماجستير والدكتوراة إلى ضرورة مراعاة القواعد البحثية المتعارف عليها؛ بحيث يتعين على الطالب تقديم مقترح لرسالة الماجستير يكون مستوفيا للعناصر الرئيسية التالية.. إلى آخر الإعلان".
يعكس هذا الإعلان حالة اللامبالاة من الطلاب حتى بمراجعة الدراسات السابقة قبل تقديم ما يُعرف باسم مقترح البحث. وبالرغم من المحاولات المستمرة لتحسين حركة البحث العلمي من قبل المؤسسات العلمية وخاصة في الأبحاث الدراسية المقدمة لنيل درجة علمية بداية من البكالوريوس إلى الدكتوراة.. فإن السمة العامة للأبحاث المقدمة تجعلنا لا نستطيع وصفها إلا بـ"أبحاث تفنيط الكوتشينة" أو "أبحاث القص واللصق"؛ فأغلبها يعتمد على النقل، وخاصة مع توافر إمكانيات الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر؛ مما جعل عمليات القص واللصق أكثر سهولة، بل على العكس أصبحت هناك بعض المواقع المتخصصة في تجهيز الأبحاث والرسائل العلمية، وما عليك إلا الدخول على الموقع وإرسال رسالة ودفع الرسوم اللازمة ليكون لديك بحث كما تشتهي وتحب، إلى جانب مكاتب تجهيز الأبحاث التي يذهب إليها الطالب، ويطلب بحثا عن موضوع معين، ويأتي في المرة التالية ليتسلمه ويصل ثمن الورقة الواحدة إلى 50 جنيها (طبقا لمشاهدة عينية).
أبحاث موضة
في تعليق لمنى مصطفى -تمهيدي ماجستير بكلية الاقتصاد- تقول فيه: "الأبحاث موضة مثلها مثل اللبس وتسريحة الشعر، وموضة هذا العام السياسة الأمريكية؛ فمعظم الرسائل التي قُدمت خاصة بهذا الأمر وكلها مكررة، بالنسبة لي قدمت وزميلة لي بحثا خاصا بأفريقيا، وحصلت على امتياز والحمد لله". أما إبراهيم محمد الحمدي -يمني الجنسية، يقوم حاليا بتحضير دكتوراة عن العنف السياسي- فيقول: معظم الأبحاث إضافة لأرشيف المكتبة وليست إضافة للعلم.
وفي كتاب للدكتور نصر محمد عارف في النظرية السياسية المقارنة يؤكد أنه في خلال بحثه المقدم للحصول على الدكتوراة، وخلال مراجعته للدراسات السابقة لم يجد أحدا يلتزم بالمنهجية في البحث باستثناء أ.د.السيد غانم رئيس قسم الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والدكتورة نادية مصطفى رئيسة مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وذكر ذلك في كتابه السالف الذكر، وهي مسألة تدعو للتساؤل: هل البحث العلمي مجرد ورقة تُقدم للحصول على درجة علمية فقط دون أن يكون لها أي نفع؟!
رقعة الشطرنج
يعلق الدكتور السيد غانم على ذلك؛ فينبه إلى أن الجانب الإيجابي في مسألة تفنيط الكوتشينة أنها تجعلك تتعرف على الورقة الناقصة؛ لتحاول الحصول عليها، وهكذا يكون لعملية التفنيط معنى إيجابي، بعيدا عن القص واللصق، ولكن الدكتور سيد يفضل الاستعانة بنموذج الشطرنج في شرح المشكلة البحثية؛ بمعنى أن ننظر للمشكلة البحثية على أنها رقعة شطرنج، والمكان الذي استوفى حقه من البحث يتحول إلى مقرر دراسي؛ لأنه حالة مستقرة من العلم يمكن تدريسها للطلاب. أما الأماكن الخالية أو شبه الخالية فيجب أن تتوجه الجهود إلى البحث خلالها، وخلال ذلك نتعرف على ما يعرف بالحالة العلمية للحقل الذي نحن بصدده (state of the art)، وبالتالي نملأ الخانات الفارغة، وهكذا تكون الأبحاث إضافة للعلم؛ ومن أجل ذلك يتم تنظيم مثل هذه البرامج التدريبية الخاصة بمناهج البحث.
أخلاقيات وقواعد
[img]file:///C:/Program Files/Common Files/Microsoft Shared/Stationery/images/pic10a.jpg[/img]النظر إلى البحث العلمي على أنه رقعة شطرنج لمعرفة الخلل والنقص
الأساس في البحث ليس فقط القواعد والأسس التي يطبق بها البحث، ولكن الأساس هو اهتمام الباحث بمشكلة معينة، ورغبته في التعامل مع هذه المشكلة، وحالة القلق الدائم التي تنتابه حيال هذه المشكلة؛ فأساس الباحث الجيد أن يكون قلقا، ولكن بطبيعة الحال ذلك القلق البنّاء الذي يدفع إلى العمل لكشف غموض مشكلة أو لبحث أمر معين. وفي هذه الحالة يكون المراقب والدافع الحقيقي في نفس الوقت هو حب الباحث لبحثه، ورغبته الحقيقية في نفع الناس والمجتمع من حوله، خاصة أنه لا توجد قواعد ضابطة لعملية البحث العلمي مع التساهل من جانب الأساتذة من ناحية، والتهاون من جانب الطالب من ناحية أخرى، ورغبته في تجاوز الامتحان فقط لنيل الدرجة العلمية، دون الاهتمام بتقديم عمل جيد له نفع حقيقي يصب في خدمة قضية معينة.
حلول مقترحة
ومن خلال ما سبق يمكن أن نخرج ببعض الحلول أو التوصيات التي يمكن أن يكون لها بعض النفع على هذا الطريق لحل مشكلة أبحاث القص واللصق، ومنها على سبيل المثال أن يُطلب من الطالب تقديم عرض (presentation) للدراسات السابقة التي قرأها قبل الإعداد للبحث الخاص به، إلى جانب تقديم عرض لخطة البحث، وهذا بدوره يدفع الباحث أو الطالب إلى الاستفاضة في القراءة حول المشكلة محل البحث؛ مما يدفعه إلى تقديم عمل جاد.
هذا فضلا عن أن الأمر يتم أحيانا من خلال التكليف؛ بمعنى أن يتم تكليف الطالب بعمل بحث عن مشكلة معينة؛ بحيث تكون هذه المشكلة بؤرة اهتمام للبحث العلمي أو مشكلة قومية، إلى غير ذلك؛ بحيث يصب البحث في النهاية لخدمة المجتمع بشكل أو بآخر، ومن ناحية أخرى تنمية مهارات البحث الأساسية من خلال الدورات التدريبية القصيرة العمر، ونموذج تلك الدورات التي بدأ مركز البحوث والدراسات السياسية في تنفيذها، وكان أول هذه الدورات في مارس 2004، وتستمر الدورة لمدة أسبوعين، وهي متاحة لجميع المهتمين بحقل البحث العلمي، ويُطلب من المتقدم للدورة تقديم بحث خلال شهرين من نهاية الدورة، يُطبق فيه ما تعلمه خلال فترة التدريب، وهي خطوة طيبة على تهذيب حركة البحث العلمي التي نحن في أمسِّ الحاجة إلى تقويمها لخدمة الصالح العام، بدلا من أن يطلق على الأبحاث المقدمة "أبحاث تفنيط الكوتشينة".
اقرأ أيضا: