المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مناهــج البحـث العلمــي وأهميتها للوصول للحقائق العلمية..!



نبض الحرف
02-15-10, 01:26 AM
مناهــج البحـث العلمــي وأهميتها للوصول للحقائق العلمية..!

(الكاتب/ د.زاهر زكار*)

يرتبط التطور الحضاري،وازدهار المجتمعات البشرية ارتباطا وثيقا،باستعمال الأساليب العلمية السليمة والملائمة التي تساهم في التقدم والازدهار للشعوب الصغيرة والكبيرة،ولا شك ان هذه الحقيقة المنطقية تظل المعيار الأول لتطور وتقدم المجتمع الإنساني،وذلك لان اعتماد الطرق والأساليب العلمية الصحيحة،ووضع الرجل المناسب في الوظيفة المناسبة هي من العوامل الرئيسية التي تقود بالتأكيد الى الرخاء الاقتصادي والتنظيم الجيد،وتعطي للفرد المقدرة الفائقة على مواجهة الظروف والتحكم في مجرى الأحداث.
تحديد مفهوم المنهج:
تعددت التعريفات حول مفهوم"المنهج"فهناك تعريف يقول،ان المنهج "هو مجموعة من القواعد التي يتم وضعها بغرض الوصول الى الحقيقة العلمية"بمعنى انه"الطريقة او الخطة التي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة لاكتشاف الحقيقة المتعلقة بموضوع او مشكلة البحث"(116).كما تعني كلمة"منهج"لغويا طريقة او فعل او تعلم شيء معين وفقا لبعض المبادئ بصورة مرتبة ومنسقة ومنظمة"(117).والمنهج بمعناه الفني والاصطلاحي يقصد به"الطريق الأقصر والأسلم للوصول الى الهدف المنشود"(118).
كما عرف"المنهج"تعريفا اصطلاحيا بأنه"فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة،اما من اجل الكشف عن حقيقة في العلوم حينما نكون بها جاهلين بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تسيطر على سير عقل الباحث وتحدد عملياته حتى تقبل،او من اجل البرهنة عليها للآخرين حينما نكون بها عارفين"(119).
ويعتبر هذا التعريف الأخير اثبت التعريفات في تحديد مفهوم المنهج العلمي،ولا بد ان نشير في هذا الصدد الى ان كلمة منهج Method)) هي مشتقة من اللغة اللاتينية وكانت تعني عند أفلاطون معاني"البحث والنظر والمعرفة"ولم تأخذ معناها الحالي إلا في بداية القرن السابع عشر،حيث أصبحت تعني"طائفة من القواعد العامة المصاغة من اجل الوصول الى الحقيقة في العلم"(120).
وبطبيعة الحال،هناك المنهج العلمي الحديث الذي يهدف الى توسيع نطاق المعرفة والتعرف على الجوانب المجهولة في العلوم،وفي بعض الأحيان يطلق عليه اسم"النظرية العلمية"ويقصد بذلك صياغة النظريات وإثراء ما هو موجود من فكر وآراء وعلاقات،لكي تتوضح الصورة في ذهن الباحث لفهم الحقيقة وطبيعة الأشياء التي نلاحظها ولا يوجد تفسير لها،فالغاية من استخدام المنهج العلمي،هو الفهم والكشف عن الحقيقة العلمية الأصيلة.كما يوجد نوع ثان من المناهج العلمية هو"المنهج العلمي التطبيقي" أي تطبيق النظرية العلمية واستعمال الطريقة او العملية المدروسة لحل أي مشكلة يواجهها المجتمع الإنساني، فالمنهجية العلمية تدرس اليوم في الجامعات كنظريات ،والتطبيق الفعلي لتلك النظريات يكون في المؤسسات التي ترغب في الاستفادة من هذه الاختراعات او الإضافات الجديدة إلى ميادين المعرفة الجديدة.
وإذا كانت البلدان الغربية متطورة ومتقدمة في صناعاتها وأنظمة العمل بها مرنة ومنطقية،فإن الفضل في ذلك يعود التي الترابط والتعاون الوثيق بين المفكرين في الجامعات ومعاهد الأبحاث العلمية وبين المسؤولين في المؤسسات الإدارية والوزارات المتطلعة للاستفادة من نظريات العلماء،والاعتماد عليها لتحسين الأوضاع الاجتماعية،وإحلال الاختراعات العلمية الجديدة محل الاختراعات البالية التي لم تعد متوافقة مع روح العصر،وهذه إحدى الأساليب العلمية التي تستعملها الدول التواقة للاستفادة من الحصيلة العلمية لمفكريها وذلك بغرض إدخال الدينامية ودم جديد وتغيرات ملائمة للحياة الاجتماعية المعاصرة.
أنواع مناهج البحث:
لا توجد طريقة علمية واحدة يمكن الاعتماد عليها للكشف عن الحقيقة،وذلك لان طرق العلم تختلف باختلاف الموضوعات التي يدرسها كل باحث،بمعنى ان كل موضوع للدراسة يتطلب نوع معين من المناهج العلمية الملائمة له،فهناك البحث الخالص،وهناك البحث الذي يركز على الأساليب،كما ان هناك البحث التطبيقي والبحث المكمل لبحث آخر،ويقود اختلاف الموضوعات المعالجة،الى اختلاف الوسائل المستعملة في البحث عن الحقيقة العلمية،ففي العلوم تستعمل المجهريات لتكبير أجسام دقيقة حتى يتعرف الباحث على الجزئيات الدقيقة التي قد لا ترى بالعين المجردة.اما في العلوم الاجتماعية فيصعب الحصول على مقاييس علمية دقيقة تجسد حقيقة القيم الاجتماعية والتصرفات الفردية والتطلعات الشخصية،إلا انه من السهل استعمال طريقة الاستقراء والتأمل والتحليل لمعرفة دوافع التصرفات والغرائز الإنسانية،فالوسائل تختلف إذن باختلاف طبيعة البحث الذي يقوم به الباحث(121).
ولكن اختلاف الأهداف والوسائل لا يعني بالضرورة،فصل العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية،وعدم وجود عوامل مشتركة بين هذين الحقلين من حقول المعرفة،فالمناهج يكمل بعضها بعضا،وينتج عنها في معظم الأحيان حقائق جديدة لم يكن يعرفها الباحث من قبل،وهذا يعني انه من خلال استعمال مختلف الأساليب العلمية قد يصل الباحث الى اكتشاف علم جديد باستعمال طرق حديثة لمعالجة ظواهر أخرى.
وعلى أية حال فإن تصنيف المناهج،يعتمد عادة على معيار ما حتى يتفادى الخلط والتشويش،وعادة تختلف التقسيمات بين المصنفين لأي موضوع،وتتنوع التصنيفات للموضوع الواحد وينطبق هذا القول على مناهج البحث،فإذا نظرنا إلى مناهج البحث من حيث نوع العمليات العقلية التي توجهها،أو تسير على أساسها،نجد ان هناك ثلاثة أنواع من المناهج هي:(122)
أ ـ المنهج الاستدلالي او الاستنباطي: وفيه يربط العقل بين المقدمات والنتائج،او بين الأشياء وعللها على أساس المنطق والتأمل الذهني،فهو يبدأ بالكليات ليصل منها للجزئيات.
ب ـ المنهج الاستقرائي: وهو عكس سابقه يبدأ بالجزئيات ليصل منها إلى قوانين عامة ويعتمد على التحقق بالملاحظة المنظمة الخاضعة للتجريب والتحكم في المتغيرات المختلفة.
ج ـ المنهج الاستردادي: فيعتمد على عملية استرداد ما كان في الماضي،للتحقق من مجرى الأحداث ولتحليل القوى والمشكلات التي صاغت معطيات الحاضر.
وإذا أردنا تصنيف مناهج البحث استنادا إلى أسلوب الإجراء،واهم الوسائل التي يستخدمها الباحث نجد ان هناك المنهج التجريبي،وهو الذي يعتمد على إجراء التجارب تحت شروط معينة ومنهج البحث الذي يعتمد على جمع البيانات ميدانيا بوسائل وطرق متعددة،ويتضمن الدراسة الكشفية والوصفية والتحليلية ومنهج دراسة الحالة،وهو ينصب على دراسة حالة وحدة معينة فردا كان او وحدة اجتماعية،ويرتبط باختبارات ومقاييس خاصة والمنهج التاريخي الذي يعتمد على الوثائق والمخلفات الحضارية المختلفة.
ولا يغيب عن الذهن انه مع تنوع مناهج البحث فإنها تخضع بشكل عام للأسلوب العلمي من حيث خطواته المشار إليها سابقا.
وسنحاول فيما يلي مناقشة أهم هذه المناهج بشكل تسلسلي على النحو الآتي:
أولاً- المنهج التجريبي:
يعتبر المنهج في البحث العلمي من اقرب المناهج الى الطريقة العلمية الصحيحة والموضوعية في البحث عن الحقيقة واكتشافها وتفسيرها والتنبؤ بها والتحكم فيها(123).والتجريب بمعناه العام الواسع،هو نشاط يمارسه الإنسان في المواقف الجديدة التي لا تسعفه خبراته السابقة بالتصرف فيها،فمثلا حينما يواجه الإنسان مشكلة جديدة لا يعرف لها حلا،فإنه يجرب و يخطئ او يصيب إلى ان يجد لها حلا،أما التجريب كوسيلة للبحث عن الحقيقة فهو يختلف في مضمونه ومقوماته.
ويشير التجريب في مضمونه العلمي العام الى قياس تأثير موقف معين او عامل معين على ظاهرة معينة،وهو بهذا يرتبط من حيث الجانب الزمني بالبعد الثالث-المشار إليه سابقا-أي مما سيحدث إذا تغير موقف من المواقف بطريقة معينة،وبناء عليه فإن أهم ما يميز البحث التجريبي هو افتراض فرض معين وتغيير الظروف بطريقة خاصة،وبقصد معين،ثم ملاحظة النتائج وتحليلها ويهدف إجراء التجارب أساسا إلى اختبار صحة الفرضيات العلمية ومعرفة العلاقات المسببة والوظيفية بين العوامل المتفاعلة والمتداخلة في الموقف.وتعتبر تجربة المعمل من أقوى الطرق التقليدية التي يمكن بواسطتها اكتشاف وتطوير المعرفة والتنبؤ والتحكم في الأحداث،وهي ناجحة في العلوم التطبيقية.
ويمكن تعريف التجربة بأنها"ملاحظة الظواهر بعد تعديلها تعديلا كبيرا او قليلا،أي التحكم في الظروف عن طريق بعض الظروف المصطنعة"(124).
دوافع استخدام التجريب:
هناك عدة دوافع او أسباب تدفع الباحث الى تبني المنهج التجريبي لإنجاز البحث نذكر منها:(125)
يسمح للباحث ان يغير عن قصد وعلى نحو منظم متغيرا معينا(المتغير التجريبي او المستقل) لملاحظة تأثيره على متغير آخر في الظاهرة موضوع البحث أو الدراسة(أي المتغير التابع) وذلك بضبط اثر كل المتغيرات الأخرى،مما يتيح للباحث الوصول إلى استنتاجات أكثر دقة،مما يتم التوصل اليه عن طريق استخدام أساليب البحث الأخرى.
التأكد من مراجعة النتائج التي توصل إليها البحث او الدراسة من خلال تكرار التجارب مرات متعددة في اوضاع وظروف متباينة.
تحقيق الفرضيات التي تفسر الظواهر وذلك في اوضاع تسمح بتناول قطبي الفرضية بشكل مستقل عن العوامل الاخرى المتصلة بالظاهرة.
تعيين دليل كمي للتعبير عن العلاقة التي تربط متغيرا ما بظاهرة معينة(126).
ولا يغيب عن الذهن ان البحث التجريبي يقوم أساسا على أسلوب التجربة العلمية التي تكشف عن العلاقات السببية بين المتغيرات المختلفة التي تتفاعل مع الديناميات او القوى التي تحدث في الموقف التجريبي،كما يمكن القول ان البحث التجريبي هو نوع من البحوث الذي يعتمد على التجربة في اختيار فرض معين يقرر علاقة بين عاملين او متغيرين،وذلك عن طريق الدراسة للمواقف المتقابلة التي ضبطت كل المتغيرات باستثناء المتغير الذي يهتم الباحث بدراسة تأثيره(127).
وتهدف التجارب على اختلاف أنواعها،الى معرفة علاقة الأسباب بالنتائج،والتجريب في مضمونه العام هو تقويم لتأثير عامل او عدة عوامل على ظاهرة معينة،ويشار إلى العامل المراد معرفة تأثيره"بالمتغير المستقل"في حين يشار الى الحوادث او الوقائع المتأثرة بهذا العامل"بالمتغيرات المعتمدة"(128)،أي التي تعتمد في ظهورها(أي حدوثها)على المتغير او المتغيرات المستقلة،وهذه الصورة التي يضعها الباحث في ذهنه عند تصميم أي تجربة.وان التصميم المثالي لأي بحث تجريبي يبنى عادة على أساس أن هناك علاقة مباشرة بين المتغير المستقل والمتغير المعتمد،بحيث أن أي اختلاف يطرأ على المتغير عند نهاية التجربة يرجع الى المتغير المستقل،ومن ثم يمكن للباحث ان يخلص من تجربته بكثير من التأكد،على فهم ما يحدث وتفسيره والسبب في ذلك هو انه في الموقف التجريبي،يستبعد الباحث كل عوامل متدخلة الا العامل المستقل الذي يريد قياس تأثيره(129).
ولا يغيب عن الذهن ان تصميم التجارب بالشكل المثالي المشار إليه،أمر ليس باليسير لأنه ليس من السهل دائما،تحديد العامل المستقل بشكل دقيق هذا من جهة،ومن جهة أخرى فإنه يصعب في العلوم السلوكية وفي التجارب التي تجرى على مواقف اجتماعية فصل العوامل المتداخلة والمسببة للظاهرة موضوع البحث(130).
وفي كل الأحوال،يتوقف نجاح التجريب على فهم جميع العلاقات الداخلية في الموقف فهما صحيحا متكاملا ويتطلب ذلك التحكم في العوامل المراد دراسة تأثيرها،وهذه النقطة الأخيرة مسألة منهجية هامة ورئيسية للتأكد من صحة النتائج التي يصل إليها الباحث من تجربته.
خطوات المنهج التجريبي:
تتضمن سلسلة سير المنهج التجريبي ثلاث خطوات أو مراحل رئيسية مترابطة ومتكاملة هي:مرحلة الوصف والتعريف للظاهرة،ومرحلة بيان العلاقات والروابط والإضافة(أي مرحلة التحليلي)ومرحلة استخراج القوانين والنظريات العلمية،أي مرحلة التركيب(131).
وغني عن الذكر،ان خطوات المنهج التجريبي هي نفس خطوات المنهج العلمي بوجه عام فهي تبدأ أولا بملاحظة الظواهر او الوقائع الخارجية عن الفعل ثم وضع الفروض ثم القيام بإجراء التجارب للتثبت من صحة الفرض أو الفروض،وأخيرا محاولة الوصول إلى القوانين التي تكشف عن العلاقات الموجودة بين الظواهر(132).
أما الخطوات العملية الشاملة التي ينبغي على الباحث إتباعها في الدراسة التجريبية فتتمثل فيما يلي:(133)
1ـ يقوم الباحث بالتعرف على مشكلة البحث او الدراسة وتحديد معالمها.
2ـ يباشر الباحث بصياغة الفرضية او الفرضيات الخاصة بمشكلة البحث واستنباط ما يترتب عليها.
3ـ يقوم بوضع تصميم تجريبي يحتوي على جميع النتائج وعلاقاتها وشروطها،وقد يتطلب ذلك من الباحث القيام بالخطوات الإضافية التالية:
1ـ اختيار عينة تمثل مجتمعا معينا.
2ـ تصنيف الأشخاص المفحوصين في مجتمعات المتجانسة.
3ـ تحديد العوامل غير التجريبية وضبطها.
تحديد الوسائل والمتطلبات الخاصة بقياس نتائج التجربة والتأكد من صحتها
4ـ إجراء اختبارات استطلاعية بقصد استكمال النواقص والقصور الموجودة في الوسائل والمتطلبات او في التصميم التجريبي
5ـ تحديد مكان التجربة وزمان تنفيذها والفترة التي تستغرقها.
6ـ الشروع في تنفيذ التجربة
7ـ تنظيم البيانات وتحديدها بطريقة تؤدي الى تقرير جيد وبعيد عن التحيز.
8 ـ إجراء اختبار لتحديد مدى الثقة في نتائج التجربة والدراسة(134).
ويصنف الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه(مناهج البحث العلمي صفحة128-129) خطوات او مراحل سير المنهج التجريبي الى ثلاث مراحل هي:
(1) مرحلة التعريف والتصنيف:
في هذه المرحلة، ينظر الباحث ويشاهد الأشياء والظواهر والوقائع الخارجية،ثم يقوم بعملية الوصف والتعريف والتصنيف في قوالب اسر وفصائل وإضافة، من اجل معرفة حالة الشيء او الظاهرة او الواقعة دون محاولة التجريب والتفسير لهذه الأشياء والظواهر والوقائع(135).
(2) مرحلة التحليل او التفسير:
وفيها ينتقل الباحث من التعرف على حالة الشيء الى تحليل وتفسير الروابط ومعرفة حالة الأشياء والوقائع والظواهر،وذلك بغرض بيان العلاقات والروابط والإضافات القائمة بين طائفة الظواهر والأشياء والوقائع المتشابهة،وذلك بواسطة عملية التحليل المعتمدة على تفسير الظواهر والوقائع والأشياء على أساس الملاحظة العلمية ووضع.. الفرضية او الفرضيات العلمية واستخراج القوانين العلمية العامة المتعلقة بهذه الظواهر والأشياء والوقائع المتحولة بالتجربة(136).
(3) مرحلة التركيب او تنظيم القوانين الجزئية:
ويتعلق ذلك بالظواهر والأشياء والوقائع الجزئية بغرض استخراج قوانين عامة في صورة مباديء عامة أولية،مثل قوانين الحركة والجاذبية وقوانين سقوط الأجسام وقوانين الصوت والضوء....الخ(137).
خصائص المنهج التجريبي:
يتصف المنهج التجريبي بخصائص عدة تميزه عن غيره من مناهج البحث الأخرى نوجزها فيما يلي:
1- الملاحظة الدقيقة في اختبار صدق الفرضية العلمية،وهذه الملاحظة ليست مجرد ملاحظة سلبية كما يحدث في كل من المجموعتين التجريبية والضابطة،وإنما هي ملاحظة ايجابية فاحصة للتعرف على التغير الذي يطرأ،والاختلاف الذي ينشأ بين المجموعتين نتيجة لتلقي أحداهما تأثير عامل معين وحرمان المجموعة الأخرى من تأثير هذا العامل،وتقسم الملاحظة المضبوطة إلى نوعين:ملاحظة خالصة وملاحظة مع التجربة،والملاحظة الأولى تعتمد على عزل خصائص الشيء بعضها عن بعض في الذهن بقصد معرفتها وادراك العلاقة بينها وبين غيرها أي بمعنى اوضح،الكشف عن القوانين العامة التي تخضع لها،اما الملاحظة مع التجربة(الثانية)فهي تقوم على المقابلة بين الفرضيات والوقائع والملاحظة البحتة،وتكتفي بالتحليل المنطقي اما الملاحظة التجريبية فإنها تقوم على التحليل الواقعي.
2- الكشف عن العلاقة السببية بين الظواهر والمتغيرات،حيث يربط دراسة هذه العلاقة السببية بالضبط الدقيق الذي لا يتوافر في مناهج البحث الأخرى.وغني عن الذكر ان المفهوم العام للسببية هو أن حادثا او واقعة معينة او عاملا معينا يؤدي الى حدوث حادثة أو ظاهرة أخرى فحدوث أية ظاهرة أخرى(خاصة اذا كانت اجتماعية)لا يعود الى عامل واحد بل الى عوامل وظروف محددة ومتعددة ويمكن تقسيم هذه العوامل الى الأنواع التالية:
أ- توافر الظرف أو الشرط الضروري،اذ بدون توافر هذا الشرط او الظرف لا تظهر الظاهرة محل الدراسة،فمثلا التدخين،يعتبر شرطا ضروريا لحدوث ظاهرة الإدمان على التدخين.
ب- وجود الشرط الكافي،الذي يتبع حدوثه تفشي ظاهرة معينة ويكون وجوده كافيا لحدوث هذه الظاهرة،فمثلا،نقص التغذية يعتبر ظرفا كافيا لحدوث مرض فقر الدم.
ج- وجود الظرف الترابطي،بمعنى ان وجود الظرف ضروريا وكافيا لحدوث الظاهرة،فمثلا، وجود الغيوم والرياح يعتبر شرطا ضروريا لسقوط الأمطار وفي هذه الحالة يصبح هناك ترابط بين الغيوم والرياح وسقوط الأمطار ولا تتحقق الظاهرة الأولى بدون حدوث الثانية والعكس صحيح.
د- الظروف المساعدة،وهو الظرف الذي يزيد من حدوث ظاهرة معينة،ولكن لا يؤكد حدوثها اذ انه يعتبر واحدا فقط من عدة عوامل مجتمعة تؤدي الى حدوث الظاهرة فمثلا تدخين السجائر او تعاطي الكحول لا يعتبر شرطا كافيا لحدوث ظاهرة الإدمان،فهناك عوامل أخرى مثل الحالات النفسية كالقلق والفراغ والانطواء الذي يعيشه الفرد وحرمانه من عطف الأب ورقابته.
هـ- الظروف التوافقية،بمعنى ان الفعل الذي يعمل كظرف مساعد لظرف آخر تحت أوضاع معينة قد لا يعمل كذلك تحت أوضاع أخرى،ولذلك فان الظروف التي تجعل من متغير ما ظرفا مساعدا لظاهرة ما،تسمى ظروفا توافقية،فمثلا،انعدام رقابة الأب للابن قد يصبح ظرفا مساعدا لظاهرة الإدمان على التدخين او الإدمان على المخدرات وتوابعها إذا ما أقام الابن في مجتمع او بيئة تعتبر فيها هذه الظواهر متفشية،فقيس الابن في هذا المجتمع يعتبر ظرفا توافقيا.
3- تمكين الباحث من إجراء اختبار فرضية او فرضيات تقول بوجود علاقة سببية منتظمة بين متغير وبين ظاهرة معينة او متغير آخر،وذلك عن طريق اختيار مجموعتين متكافئتين ومتساويتين من جميع الوجوه بقدر الامكان باستثناء متغيرا واحدا وهو ما يعرف "بالعامل التجريبي"او بـ"السبب المفروض"أو"المتغير المستقل"الذي يسلط على إحدى مجموعتي التجربة ويحجب عن الأخرى.
أما المجموعة المسلط عليها العامل التجريبي او المتغير المستقل فتسمى"المجموعة التجريبية"وتسمى المجموعة الأخرى التي حجبت عن هذا العامل"بالمجموعة الضابطة".

4- في المنهج التجريبي يخضع الباحث ما هو موجود للتحكم والضبط فهو لا يكتفي بوصف وتفسير وتحليل ما هو موجود بل يتدخل في تكوين المواقف التجريبية وتوجيه العوامل والظروف بالحذف أو الإثبات،وفي تنظيمها وترتيبها،فالتجربة التي يقوم بها الباحث تتم تحت ظروف يحددها الباحث نفسه ويمكن للباحث أيضا ان يفرض الضوابط على تجربته بإبعاد أي احتمال لتدخل عوامل أخرى أثناء إجراء التجربة(138).
انواع المجموعات التجريبية:
تتعدد أنواع التصميمات التجريبية وتتفاوت في مزاياها ونواحي قصورها(قوتها وضعفها)من حيث كفاية المتغيرات المؤثرة في المتغير التابع،ويمكن تصنيف مجموعات التجارب الى ثلاثة أنواع هي:(139)
ـ طريقة المجموعة الواحدة
ـ طريقة المجموعة المتكافئة
ـ طريقة المجموعة الدائرية او الطرق التبادلية
سنحاول فيما يلي مناقشة هذه الأنواع بشيء من الإيجاز:
1ـ طريقة المجموعة الواحدة:
وفي هذه الطريقة التجريبية يطرح عامل محدد واحد من المجموعة او من وحدة في بعض الأحيان-باعتبارها تخص جماعة واحدة-ثم يقاس بعد ذلك التغير الناتج(اذا وجد)أي اذا كان هناك تغير ومثال على ذلك يمكن ان تختبر مجموعة من الطلاب اختبارا معياريا في القراءة،وبعد تحديد الدرجات الخاصة بهذا الاختبار تعطى هذه المجموعة دروسا خاصة في كيفية القراءة الصحيحة للمواد المختلفة،وذلك خلال فترة من الوقت،وبعد ذلك يعطون اختبارا على نفس المستوى مرة ثانية بعد المرة المحددة للتجربة ثم تجرى مقارنة بين الدرجات التي حصلوا عليها في الاختبارين الأول والثاني وإذا وجد ان هناك تحسنا في قدرتهم على القراءة الجيدة، يمكن الاستنتاج بان دروس تعليم القراءة قد كانت ذات قيمة،وإنها تشكل العامل الأساسي في تغير القدرة القرائية،وان الطريقة التجريبية الخاصة بالجماعة الواحدة،يمكن ان تؤدي الى نتائج مرضية اذا أمكن التحكم في جميع العوامل التي تؤثر على التجربة.
وعلى أية حال،فإن أهم ما يتوجب على الباحث إدراكه عند استخدام طريقة المجموعة الواحدة،ان يراعي وضع العوامل المتداخلة والمؤثرة في التجربة تحت سيطرته حتى يضمن درجة عالية من الصدق في نتائجه،ولأن العوامل التي تؤثر في تجارب المجموعة الواحدة لا يمكن وضعها تحت حكم الباحث في كل حالة،فإنه يمكن استخدام طريقة المجموعة المتكافئة او المجموعة الدائرية وذلك لضمان قدر اكبر من الدقة في النتائج.
2ـ طريقة المجموعة المتكافئة:
في هذه الطريقة يحدث القياس فيها مرة واحدة بعد انتهاء التجربة،وليس كما في النوع الأول،يقاس أفراد المجموعة قبل إدخال المتغير التجريبي وبعده،وتسمى بالمجموعة المتكافئة حيث يقوم الباحث بدراسة مجموعتين متكافئتين في وقت واحد،ويقصد بالتكافؤ هنا،التشابه او التوازي في جميع المتغيرات المتداخلة في الموقف عدا المتغير التجريبي،واختيار مجموعتين متماثلتين او متوازيتين شيء يصعب تحقيقه في التجارب على الإنسان،وبعد ان يكون الباحث قد حصل على مجموعتين متشابهتين يقوم بإدخال العامل التجريبي على إحدى هاتين المجموعتين،ويشير إليها في هذه الحالة بأنها المجموعة التجريبية ولا ينطبق ذلك على المجموعة الأولى التي يشير إليها بالمجموعة الضابطة،ثم يقارن بين المجموعتين بعد ذلك وإذا حدث تغير في المجموعة التجريبية فإنه يكون في هذه الحالة راجعا الى المتغير التجريبي.
3ـ طريقة المجموعة الدائرية او الطرق التبادلية:
في هذه الطريقة التجريبية يمكن للباحث استخدام مجموعتين او أكثر في تجربة الجماعة،وعادة ما تبذل المحاولات للتأكد من ان المجموعات متكافئة تقريبا،وبعد ذلك يطبق العامل التجريبي على كل تجربة بدورها،وبهذه الطريقة تصبح كل المجموعات الداخلة في الدراسة بدورها مجموعة تجريبية،ثم مجموعة ضابطة في أثناء مراحل البحث المختلفة(140).
وهناك طرق كثيرة لا تختلف عن ذلك،ويمكن للباحث القيام بها بسهولة تامة،اذا ما تذكر(الباحث) ضرورة المحافظة على الظروف التي يجب ان تكون متوفرة دائما في تجربة ناجحة.

الأخطاء المتوقعة في طريقة التجريب:
لا يغيب عن الذهن،وجود صعوبات وعقبات-كما هو الحال بالنسبة لأنواع البحوث الأخرى-عديدة في اختبار فرضية او فرضيات عن طريق التجريب،ومن أكثر الأخطاء شيوعا،هو ميل الباحث الى سرعة الثقة في النتائج التي حصل عليها،من تجربة واحدة،حتى وان كانت نتائج هذه التجربة أثبتت على أنها غير دقيقة،وسوف يتم الحصول عليها عند تكرار نفس التجربة،وعليه يجب على الباحث الطبيعي أن يعتمد مبدأ التكرار في إجراء التجارب،لأنه الحد الأدنى،اذا ما كان سيضع قدر من الثقة في النتائج التي يتم التوصل إليها،ولأنه يوضح مدى صحة النتائج،كما قد يكشف عن بعض الاخطاء التي يكون قد وقع فيها الباحث أثناء سير التجربة او عند بداية تقسيمها(141).
كما انه قد تسبب الأجهزة السيئة المستخدمة في التجربة عددا من الأخطاء،وبذلك تحطم الدراسة بأكملها،فمثلا،أشياء مثل الشوائب الدقيقة التي توجد في الكيماويات او العوامل الفردية غير المشكوك فيها،بين الحيوانات او الأفراد الخاضعين للتجربة،قد تؤثر كثيرا في النتائج التي توصل إليها الباحث.ولكن هذا النوع من الصعوبة او الأخطاء،يبدو انه ظاهر بدرجة كافية بالنسبة لأي باحث متمرس،لأنه يحرص عادة على اكتشاف(أي الدقة) وهي من الأمور التي تؤثر تأثيرا عميقا في دقة نتائجه،وإذا كان من الصعب اعتماد مبدأ التكرار في التجريب،المشار إليه آنفا،فإن على الباحث ان يتخذ الاحتياطيات المسبقة لتحاشي عوامل الضعف أثناء مرحلة تعميم التجربة وتنفيذها.
وعلى كل حال فإن أهم الصعوبات التي تواجه الباحث هي التعرف على جميع العوامل المتغيرة التي قد تؤثر في نتائج التجربة،فمثلا،نجد ان في أي دراسة خاصة بالأفراد يكاد يكون من المستحيل عزل وضبط كل عامل،يتوقع أن يكون له تأثير في التغيرات التي تحدث أثناء إجراء التجربة،ولو ان تجربة ما أجريت على إنسان فإنها تحتاج إلى فترة زمنية تقدر بشهر أو أكثر،فإنه في نفس الوقت التي تجري فيه الأحداث،سيكون الإنسان قد نما وتغير من نواح معينة في أثناء هذه الفترة ولن يعود وهو نفس الشخص الذي كان عند بدء التجربة.
وعلاوة على ذلك،فإنه ليس من السهل-بشكل عملي-المحافظة على الأفراد التي تجرى عليهم التجربة تحت مراقبة مستمرة أثناء المنهج الكامل للتجربة،فالطفل(مثلا)الذي تجرب فيه بعض وسائل التعليم الحديثة في القراءة قد يحصل على تعليم إضافي من والديه في المنزل دون علم الباحث،وقد يشوه هذا العامل التقويم الذي يجرى لمعرفة مدى تقدم هذا الطفل أثناء التجربة(142).
بالإضافة إلى أن اختيار بعض الموضوعات للدراسة،قد يقود إلى الانزلاقات في تعميمات غير دقيقة،فمثلا،محاولات كثير من علماء النفس دراسة الحيوان تجريبيا وتحت ظروف مضبوطة بدقة وذلك بغرض معرفة كيفية التعلم عند الإنسان،ومن المؤكد أنهم توصلوا من تجاربهم العديدة في هذا الشأن إلى معلومات مفيدة وهامة،إلا ان تطبيق هذه المعلومات على الإنسان ظل موضع جدال ونقاش،حيث رأى البعض ان الأفضل في مثل هذه الحالة دراسة الإنسان،وضرورة التحفظ والحرص عند تعميم نتائج مثل هذه التجارب.
كما ان هناك قضية منهجية هامة عند التجريب على المجموعات وهي كيفية اختيار عينة البحث ومدى تمثيلها لمجتمع البحث،ولتوضيح ذلك،فعند إجراء تجربة في مدرسة او عدة مدارس،من اجل إثبات ما إذا كان إعطاء الحليب للأطفال في فترة الراحة اليومية سوف يكون له اثر في نموهم وصحتهم بوجه عام،فإن مجموع أطفال المدرسة يسمى"مجتمع البحث"في حين ان مجموعة الأطفال الذين تم اختيارهم لعملية التجريب يشار إليهم"بعينة البحث"وحسب القاعدة المتعارف عليها في هذا المجال،فإن تقويم نتائج أي تجربة يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تمثيل عينة البحث تمثيلا صحيحا لمجتمع البحث،ووفقا لذلك يتعين على الباحث أن يتأكد له أن الأطفال الذين تم اختيارهم للاشتراك في هذه التجربة،هم يمثلون فعلا جمهور المدرسة بشكل عام،او يمثلون مجموعة العمل الخاصة بهم.
ومن الأخطاء الهامة التي تحدث في منهج التجريب،هي عملية التحيز التي قد تواجه الباحث،والتحيز يعتبر من اخطر سلبيات البحث العلمي،وقد يلعب دورا مؤثرا في النتائج،ففي المثال السابق،قد يحاول مدرس إجراء تجربة استخدام وسيلة او ابتكار جديد،قد يجعل هذه الوسيلة تأتي بنتائج طيبة لمجرد تحمسه أو بسبب اهتمامه الشخصي الذي يهدف إلى إنجاح هذه الوسيلة.كما قـد يظهر التحيز أيضا بين أفراد التجربة أنفسهم،اذ أنهم قد يحاولون بذل المزيد من الجهد لو أنهم عرفوا الغرض من التجربة،ولتحاشي أخطار هذا التحيز يجب اتخاذ كل حيطة ممكنة،فمثلا،عند اختبار دواء جديد،فإنه من المعتاد إعطاء بعض أفراد التجربة حقنا وهمية او بعض حبات من السكر يحسبون أنها تحتوي على الدواء،وهذا يوضح ان قدرة الإيحاء قد تكون غاية في القوة عند الإنسان.
وتعاني التجارب التي تطبق على الإنسان أيضا،من اثرالايحاء أو العوامل غير الشعورية،وعادة ما يكون اكتشاف هذه الأخطاء غاية في الصعوبة،ولا يغيب عن الذهن إن أي شيء في الأجهزة او في الطريقة المستخدمة يميل إلى إخبار احد أفراد التجربة بماهية الفرض الذي يقوم الباحث باختباره أو أهمية نوعية استجاباته بالنسبة للتجربة،قد يؤدي الى صبغ استجاباته بصبغة متحيزة(143).
كيفية تصميم التجربـة:
يقصد بتصميم التجربة،وضع خطة للعمل تكون محددة الجوانب،تمكن الباحث من اختبار فروضه اختبارا دقيقا،وفي الواقع فإن أي بحث علمي يتطلب وضع تصميم كامل(خطة العمل) يشتمل على جميع الخطوات او المراحل التي يمر بها البحث العلمي،كما يتضمن نوع المنهج الذي سيسير عليه والأدوات المطلوبة له،واي تصميم علمي يتضمن جانبين(144).الأول هو الجانب النظري،ويتضمن تحديد المشكلة والهدف من البحث،وكذلك مجال البحث(ميدانه) من حيث العينة او المكان او الزمان،ونوع البيانات المطلوبة لاختبار الفرضيات.والثاني الجانب العملي(التطبيقي)يشمل تصميم العينة،ويتضمن نوع العينة وطريقة اختبارها وتفادي الوقوع في الأخطاء والتصميم الميداني ويعني تصميم مواقف الملاحظة والتصميم الإحصائي يقصد به تحديد الطريقة الإحصائية التي يمكن استعمالها في البحث،والتصميم الإجرائي يقصد به ترجمة القرارات التي اتخذها الباحث في مراحل التصميم السابقة،الى وسائل وإجراءات فعلية يمكن إنجازها لقياس الظاهرة محل البحث.
وغني عن الذكر أن دقة التصميم تختلف باختلاف نوع البحث وطريقته،والبحوث التجريبية تتطلب أكثر من غيرها من البحوث درجة من الدقة اكبر،ولذلك ينبغي على الباحث أن يراعي النقاط التالية عند تصميم التجربة وهي:(145).

ـ معرفة الباحث كيفية الكشف عن علاقة يفترض وجودها بين متغيرا او اكثر مع تجنب أي تدخل لمتغيرات اخرى قد تؤثر في هذه العلاقة بصورة او بأخرى.
ـ يجب مراعاة الدقة في صياغة الفروض،لأنه هي التي تحدد سير العمل تجاه اختبار الفرض او الفروض،مع الاشارة الى ان الصياغة قد تختلف اختلافا كبيرا من حيث الشكل والموضوع،ومدى التوقع الذي توحي به،وعادة تحدد الصياغة نوع العينة التي يجري عليها البحث،كما تحدد المتغير المعتمد والمتغير التجريبي المستقل،مع التذكير بان تحديد صياغة الفرض يتطلب تعريف اصطلاحاته تعريفا اجرائيا وتعتبر هذه الخطوة او الإجراء ذات اهمية بالغة من الناحية التطبيقية عند الحصول على نتائج معينة.
ـ ضرورة تحديد خصائص العينة التي يجري عليها البحث،مع العلم بأن العينة في الدراسات الاجتماعية و السلوكية قد تكون أفرادا او جماعات او مواقف،وتعتبر عملية اختيار العينة خطوة منهجية هامة جدا،اذ يتوقف عليها تعميم النتائج التي تم الوصول اليها،وذلك لاعتبار العينة طريقا مختصرة للوصول الى قوانين او تطبيق قانون في موقف او تنبؤات تطبيقية(146).
ـ تخطيط سير العمل في التجربة من قبل الباحث تخطيطا دقيقا،للتمكن من جمع ملاحظات ضابطة،وهناك نقاط يحددها الباحث المتمرس في ضوء خبرته السابقة ومعلوماته من البحوث التي سبق نشرها،وهذه النقاط هي،نوع العينة،وطريقة اختباريها،واختيار طريقة تقديم المنبهات المختلفة وكذلك وسائل قياس الاستجابات،وفي حالة إجراء التجربة على الأفراد يراعى إعداد العينة نفسها للموقف التجريبي.
ـ الخطوة الأخيرة تتمثل في التدوين الجيد،الذي يزودنا بمعلومات تساعد على إثارة مشاكل جديدة،وتغير في النظريات القائمة،وبما ان التدوين هو وسيلة الاتصال العلمي بين المتخصصين،حيث انه ينقل إليهم ما توصل إليه أي باحث او عالم من علماء المعرفة الإنسانية،لذلك توجب الاهتمام في تصميم التجربة بطريقة التدوين للمعلومات بحيث يكون واضحا ودقيقا،ومع وصف سير العمل في التجربة وصفا يتيح لقارئ النتائج الفهم الصحيح للتجربة من جميع جوانبها وأبعادها دون إطالة مملة او اختصار مخل بالمعنى الصحيح.ويراعى الإشارة في التدوين إلى ربط النتائج المتوصل إليها حديثا بالنتائج السابقة في موضوع البحث،ويستطيع الباحث في مناقشته،ان يستعين بالأبحاث السابقة لدعم رأيه او مناقشة اختلاف نتائج غيره عن نتائجه،مبرزا رأيه في الاختلاف بشرط ان يكون مدعوما بالأدلة والبراهين،ومع ذلك فان عملية التدوين تتطلب مراعاة النقاط التالية:(147)
أ- وضع عرض مختصر عما نشر عن موضوع البحث.
ب- توضيح نوع العينة والأجهزة والأدوات المستعملة والطريقة التي سيسير عليها البحث.
ج- تقديم عرض للنتائج التي حصل عليها الباحث.
د- مناقشة هذه النتائج.
هـ- تحرير ملخص عام للبحث.
و- إعداد قائمة شاملة بالمراجع التي استعان بها الباحث لإنجاز البحث.
وأخيرا لا بد أن نشير الى نقطة هامة، وهي انه بالرغم من أهمية المنهج التجريبي في البحث العلمي،إلا أن دقة نتائجه وصدقها يتوقف إلى حد كبير على دقة تصميم التجربة،ويقظة الباحث وقدرته على التحكم في الموقف او الإجراء التجريبي،وفي المتغيرات التي يعيش تأثيرها وكذلك على موضوعية الملاحظة ودقتها.
ثانيا-المنهج الوصفي(المسح):
يعتبر المنهج الوصفي او المسح،من المناهج الرئيسية التي تستخدم في البحوث السلوكية والاجتماعية ويعتمد عليه اعتمادا كبيرا في البحوث الكشفية والوصفية والتحليلية(148).ويعتمد المنهج الوصفي على دراسة الواقع او الظاهرة،كما توجد في الميدان،ويهتم بوصفها وصفا دقيقا،ويعبر عنها تعبيرا كيفيا او كميا،والتعبير الكيفي يصف الظاهرة ويوضح خصائصها،أما التعبير الكمي فيعطها وصفا رقميا يوضح مقدار هذه الظاهرة او حجمها ودرجات ارتباطها مع الظواهر المختلفة الأخرى.
تعريف المنهج الوصفي:
يعتمد المسح او الوصف كطريقة للتجريب على الأسلوب العلمي،حيث يقيس متغيرات معينة،ولكنه يختلف عن التجريب الذي يخضع فيه الباحث المتغير لتحكمه وفقا لخطة معينة،في حين ان الوصف يدرس المتغيرات في وضعها الطبيعي دون أي تدخل من قبل الباحث،وبذلك تكون دراسة الظاهرة تحت ظروف طبيعية وليست ظروف صناعية كما هو في المنهج التجريبي(149).
والمنهج المسحي هو عبارة عن دراسة عامة لظاهرة موجودة في جماعة ما،وفي مكان معين وفي الوقت الحاضر وهو طريقة من طرق التحليل والتفسير بشكل علمي منظم من اجل الوصول الى أغراض محددة لوضعية اجتماعية او مشكلة اجتماعية او سكان معينين،ويرى بعض المفكرين ان المسح الاجتماعي قد يتضمن عمليات عديدة كتحديد الغرض منه وتعريف مشكلة البحث وتحليلها وتحديد نطاق ومجال المسح وفحص جميع الوثائق المتعلقة بمشكلة البحث وتفسير النتائج،واخيرا الوصول الى الاستنتاجات واستخدامها للأغراض المحلية او القومية(150).
أغراض المنهج الوصفي:
يلجا الباحث الى اعتماد المنهج الوصفي في دراسة مشكلة موضوع البحث للأغراض التالية:(151)
1ـ لجمع المعلومات الحقيقية والمفصلة عن ظاهرة ما موجودة فعلا في مجتمع معين.
2ـ لتحديد المشاكل الموجودة او لتوضيح بعض الظواهر.
3ـ لإجراء مقارنة وتقييم لبعض الظواهر.
4ـ لتحديد ما يفعله الأفراد في مشكلة معينة والاستفادة من آرائهم وخبراتهم في وضع تصور وخطط مستقبلية واتخاذ القرارات المناسبة في المشاكل ذات الطبيعة المتشابهة.
5ـ لإيجاد العلاقة بين الظواهر المختلفة.
وغني عن الذكر،إن هدف تنظيم المعلومات وتصنيفها هو مساعدة الباحث على الوصول إلى استنتاجات وتصميمات على تطوير الواقع المراد دراسته،فالأسلوب الوصفي او المسح،لا يهدف إلى وصف الظواهر أو وصف الواقع كما هو،بل إلى الوصول إلى استنتاجات تساهم في فهم هذا الواقع وتطويره(152).
والمسح أنواع، فهناك المسح العام كما يحدث في التعداد او الإحصاء السكاني،وهناك الدراسات الوصفية وهي في بعض الأحيان تكون كالمسح العام،وكذلك الدراسات الكشفية والدراسات التحليلية،كما يتضمن هذا النوع من الدراسات الطولية والدراسات العرضية،ويلاحظ ان معظم دراسات المسح دراسات ميدانية(153).وتركز البحوث الوصفية على خمس مبادئ هي:
1ـ الاستعانة بمختلف الادوات المستخدمة للحصول على البيانات مثل المقابلة الشخصية والاستفتاء والملاحظة وتحليل الوثائق والسجلات سواء بصورة منفردة باستخدام كل أداة على حدة او بصورة مجمعة يمكن من خلالها الجمع بين استخدام أكثر من أداة.
2ـ وجود اختلاف في مستوى عمق الدراسات الوصفية،بمعنى ان يكتفي بعضها بمجرد وصف الظاهرة المراد بحثها كميا او كيفيا بدون دراسة الأسباب التي أدت الى ما هو حادث فعلا،بينما يسعى البعض الآخر الى التعرف على الأسباب المؤدية للظاهرة،هذا علاوة على ما يمكن عمله او تغييره حتى يؤدي الى إجراء تعديل في الموقف المبحوث.
3ـ اعتماد الدراسات الوصفية عادة على اختيار عينات مماثلة للمجتمع الذي تؤخذ منه،وذلك توفيرا للجهد والوقت وتكاليف البحث.
4ـ ضرورة اصطناع التجريد في البحوث الوضعية،للتمكن من تمييز خصائص الظاهرة المدروسة وخاصة ان الظواهر في ميدان البحوث الاجتماعية تتسم بالتداخل والتعقيد،مما لا يمكن الباحثين من مشاهدة كل هذه الظواهر في مختلف حالاتها على الطبيعة.
5ـ ضرورة تصنيف الأشياء والوقائع أو الكائنات او الظواهر موضوع الدراسة على أساس معيار مميز،لأن ذلك هو الأسلوب الوحيد إلى استخلاص الأسبق ومن ثم التعميم باعتبار ان التعميم هو مطلب أساسي في الدراسات الوصفية للتمكن من استخلاص أحكام تصدق على مختلف الفئات المكونة للظاهرة المراد دراستها.
مراحل إجراء البحث الوصفي:
يتم إجراء البحث الوصفي عادة على مرحلتين(154)،الأولى هي مرحلة الاستكشاف والصياغة ومرحلة التشخيص والوصف المتعمق،والمرحلتان ترتبطان مع بعضها البعض،وتسلم أحداهما الى الأخرى،حيث ان عملية البحث الاجتماعي عملية متدرجة من البسيط الى الأكثر تعقيدا،وفيما يلي شرح لأهداف وإجراءات كل مرحلة من هاتين المرحلتين.
1ـ مرحلة الاستكشاف والصياغة:
تهدف معظم الدراسات في الميادين الاجتماعية والسلوكية إلى استطلاع مجال محدد للبحث الاجتماعي أو صياغة مشكلات تصلح للبحث الدقيق في مرحلة لاحقة،كما تهدف هذه الدراسات الى تحقيق وظائف او مهام أخرى مثل،توضيح بعض المفاهيم،وتحديد اولويات المسائل والموضوعات الجديرة بالبحث او جمع معلومات حول الإمكانية العملية لإجراء بحث عن مواقف الحياة العملية او حصر المشكلات التي يعتبرها الناس ذات أهمية خاصة بالنسبة لحياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
ولا شك ان الدراسات الكشفية تتطلب إجراءات منهجية محددة،وهي إجراءات ليست مستقلة او منعزلة عن بعضها،ولكنها تتكامل في وحدة منهجية لتحقيق أهداف الدراسة الاستطلاعية،وإذا كانت هذه الدراسات تشكل في العادة نقطة البداية في البحث العلمي،فإن البداية دائما هي اهم الخطوات،اذ يتوقف على نجاحها استمرار عملية البحث،ومهما بلغت دقة النتائج والإجراءات التي يصطنعها الباحث في مراحل لاحقة،فإنها ستكون عديمة التأثير اذا كانت البداية غير صحيحة او غير ملائمة،وتتضمن إجراءات الدراسات الكشفية الخطوات الأساسية التالية:
ـ استشارة الأفراد ذوي الخبرة العلمية بمشكلة الدراسة.
ـ تلخيص تراث العلوم الاجتماعية والميادين المختلفة المرتبطة بمشكلة الدراسة.
ـ تحليل بعض الحالات التي تدعم من معرفة الباحث بمشكلة البحث وتزيد من توضيحها.
2ـ مرحلة التشخيص والوصف المتعمق:
يهتم هذا النوع من البحوث الاجتماعية بوصف الخصائص المختلفة وجمع المعلومات حول موقف اجتماعي او مجتمع محلي معين(155).فقد يهتم الباحث في دراسة هذا النوع بالتعرف على طبيعة الخدمات العامة التي يوفرها المجتمع للأفراد والجماعات،فيدرس أوضاع الإسكان والخدمات الصحية والثقافية...الخ،ويطلق على هذا النوع من الدراسات مصطلح"البحوث الوصفية التشخيصية"وذلك أنها جميعا تشترك في عدم وجود فروض مبدئية او قضايا عامة توجه الباحث نحو فحص العلاقة الارتباطية بين متغيرين،فمثل هذه الفروض تتطلب شروطا خاصة في الدراسات التي تجرى لاختبارها،تختلف اختلافا جوهريا عن الشروط التي يجب ان تؤخذ في الاعتبار عند تصميم الدراسات الوصفية.
ولا يغيب عن الذهن،ان هناك فروقا بين الدراسات الوصفية والاستطلاعية(الكشفية)حيث ان كلا منهما لا يبدأ من فروض ويستطيع الباحث تحديد الفروق بين هذين النوعين من الدراسات حيث ان الدراسات الوصفية تقتضي وجود قدرا كافيا من البيانات عن المشكلة موضوع البحث،وذلك بعكس الحال في الدراسات الاستطلاعية التي يدخل فيها الباحث الميدان،وهو لا يعرف الأبعاد الحقيقية للظاهرة التي يدرسها،الأمر الذي يجعله يحصر اهتمامه في استكشاف كل جوانب هذه الظاهرة او المشكلة.
خطوات البحث في المنهج الوصفي:
يختلف سير البحث في البحوث الوضعية وفي تصميمها عنه في بحوث التجريب من حيث نوع الإمكانيات سواء البشرية والمادية المطلوبة لإجرائه او من حيث وسائل جمع البيانات،ويمكن تلخيص خطوات البحث الوصفي في النقاط التالية:(156)
ـ يبدأ الباحث بتحديد الغرض من المسح ويتضمن ذلك تحديد مشكلة الدراسة والاعتبارات العلمية التي يبني عليها هدفه.
ـ يضع الباحث خطة لسير البحث،وتشمل تحديد مجال البحث من حيث العينة والمكان والزمان اللازم لتنفيذه.
ـ اختيار الباحث أدوات البحث التي سيستخدمها في الحصول على المعلومات كالاستفتاء او المقابلة الشخصية أو الاختيار،أو الملاحظة،وذلك وفقا لطبيعة مشكلة البحث وفروضه ثم يقوم(الباحث) بتقنين هذه الأدوات وتقدير مدى صدقها وتباينها.
ـ يقوم الباحث بجمع المعلومات المطلوبة بطريقة دقيقة ومنظمة.
ـ تحليل البيانات تحليلا إحصائيا وتفسيرها عن طريق القياس المنطقي.
ـ استخلاص النتائج وتحليلها وتفسيرها مع تقدير مدى الثقة في النتائج الإحصائية عند تطبيقها على المجموع الذي أخذت منه العينة.
ايجابيات البحث في المنهج الوصفي:
يتميز البحث في المنهج الوصفي بعدة خصائص أهمها:
1ـ تقديم معلومات وحقائق عن واقع الظاهرة أو المشكلة.
2ـ يوضح العلاقة بين الظواهر المختلفة،والعلاقة في ظاهرة البحث نفسها مثل توضيح العلاقة بين الأسباب والنتائج.
3ـ يقدم تفسيرا للظواهر والعوامل التي تؤثر فيها مما يساعد على فهم الظاهرة نفسها.
4ـ يساعد في التنبؤ بمستقبل الظاهرة محل الدراسة.
5ـ يعتبر الأسلوب الأكثر شيوعا واستخداما في العلوم الاجتماعية والسلوكية.
سلبيات البحث في المنهج الوصفي:
وفي المقابل يوجه الى البحث الوصفي الكثير من الانتقادات والتي منها:(157)
1ـ قد يعتمد الباحث في هذا النوع من البحوث على معلومات مغلوطة من مصادر خاطئة.
2ـ يمكن ان يؤدي الى تحيز الباحث في عملية جمع المعلومات الى مصادر معينة تزوده بما يحتاجه من معلومات.
3ـ معظم المعلومات التي تجمع في الدراسات الوصفية تأتي عن طريق الأفراد،لهذا فان عملية جمع المعلومات تتأثر بتعدد الأشخاص الذين يتولون مهمة جمعها بأساليبهم الخاصة.
4ـ نظرا لان إثبات الفروض في البحوث الوصفية يتم عن طريق الملاحظة المجردة فان ذلك يقلل من قدرة الباحث على اتخاذ القرار.
5ـ ان قدرة الدراسات الوصفية على التنبؤ تظل محدودة للغاية وذلك لصعوبة الظاهرة الاجتماعية وعدم ثباتها.
وبالرغم من هذه الانتقادات- المشار إليها انفا- ،فإن ذلك لا يقلل باي حال من الأحوال من أهمية استخدام المنهج الوصفي في مختلف المجالات والظواهر،إذ أن عملية الوصف هي الخطوة الأولى على طريق العلم.






ثالثا- منهج دراسة الحالة:
يهدف منهج دراسة الحالة الى التعرف على وضعية واحدة معينة وبطريقة تفصيلية دقيقة بمعنى ان الحالة التي يصعب فهمها،ويصعب إصدار الحكم عليها نظرا لوضعيتها المميزة او الفريدة يمكن التركيز عليها بمفردها وجمع البيانات والمعلومات الخاصة بها ثم تحليلها والتعرف على جوهر موضوعها تمهيدا للتوصل الى نتيجة واضحة بشأنها(158).
ويرى الكثيرون أن دراسات الحالة هي ضمن الدراسات المسحية،لأن كثيرا من الإجراءات البحثية في كلا النوعين متشابهة الى حد كبير،وغالبا ما يستخدم في البحث العلمي والسيكولوجي منهج المسح ودراسة الحالة كدراستين مكملتين لبعضهما للعلاقة الوثيقة بينهما،وتتمثل دراسة الحالة في البحث المتعمق عن العوامل المعقدة والعلاقات المختلفة التي تسهم في وحدة اجتماعية معينة(فردا او جماعة او أسرة او مؤسسة اجتماعية)أي بمعنى أنها تهتم بدراسة الحالات الفردية،وتقوم هذه الطريقة او المنهج أساسا على افتراض ان الفرد يكون في مجاله الذي يتفاعل فيه وحده وكلا،وان العوامل المتداخلة في أي موقف من مواقف الحياة تأخذ معناها وأهميتها من الموقف نفسه،وهذا هو ما يوضح السبب في ان طريقة دراسة الحالة تساعد على فهم اعمق للموقف والعوامل المتفاعلة فيه.
أما وجه الاختلاف بين منهج المسح او الوصف ومنهج دراسة الحالة،فيكمن بالأساس في حقيقة ان منهج المسح يعتبر دراسة كمية،حيث يقوم الباحث بجمع البيانات او القياسات من عدد كبير من الوحدات الفردية،في حين انه في دراسة الحالة،يفحص بدقة وحدة او أكثر من هذه الوحدات التي يطلق عليها"حالة منفصلة"وهذه الحالات تبدو أكثر تمثيلا وتصويرا ووفقا لذلك،فإن دراسة المسح لظاهرة الجنوح بين الأحداث،قد يكشف العدد الكلي للجرائم والأنواع المختلفة لهذه الجرائم،وكذلك الخصائص الطبيعية والسيكولوجية لمرتكبي الجرائم(مثل أعمارهم،وخلفياتهم العائلية وقدراتهم العقلية ومقدار..تعليمهم وزيادة ونقصان تصرفات الجانح لفترة معينة...الخ).
أما دراسة الحالة،فقد تغري الباحث بمواصلة البحث عن أسباب الانحراف عند الأحداث وذلك بإجراء استقصاءات او تحريات موسعة
في تطور عدد من الجانحين النموذجيين في مجموعة وخلفياتهم العامة.
وعلى العموم يرى معظم العاملين في حقل البحوث الاجتماعية ان طريقة دراسة الحالة،تمد الباحث بالنتائج التي يسير عليها ويبقى استخدام منهج المسح ومنهج دراسة الحالة في معالجة أي ظاهرة أكثر فائدة في ميدان البحوث العلمية المختلفة.
وعلى أية حال،فإن طريقة دراسة الحالة،غالبا ما تستعمل في مجال الطب العقلي وعلم النفس الاكلنيكي ،وتنصب معظم الدراسة في هذا الميدان على دراسة الأفراد،كما تهدف بجانب فهم الظاهرة السلوكية المعينة الى التشخيص والعلاج،ويطلق عليها في هذه الحالة"الطريقة الاكلينيكة المعملية"لاعتمادها على كل الوسائل المعملية المختلفة،أما في مجال البحوث الاجتماعية فهي تقتصر على الأفراد بل تتسع لدراسة وحدات ومؤسسات اجتماعية.
والواقع،إن ما يهدف إليه الباحث باستخدام منهج دراسة الحالة،ليس فقط مجرد وصف كامل للفرد او للوحدة الاجتماعية موضوع الدراسة،بل ينفذ دائما الى الأعماق وهو يفحص دائرة الحياة الكلية لوحدة اجتماعية معينة،او قد يركز الانتباه على جانب معين منها،فقد يحاول الباحث دراسة علاقة الأبناء مع الآباء،ومن ناحية أخرى إذا أراد الباحث ان يؤكد او يثبت ما أسهم في سوء التوافق الاجتماعي لدى مئات من الأشخاص الجانحين،فغالبا ما يبحث بعمق كل جانب من جوانب حياتهم الكلية،طفولتهم وحياتهم العائلية وجماعة الأصدقاء والخبرات الاجتماعية،الى غير ذلك من العوامل المؤثرة في إطار حياتهم عامة،وكثير من سماتهم السلوكية،ولكن السؤال هنا هو،كيف يستطيع الدارس ان يقرر أي الحالات يجب دراستها ويمكن اعتبارها نموذجية؟
في بعض الأحيان قد يخطئ الباحث عند اختياره للحالات التي يرغب في دراستها،وذلك باختيار حالات قد تبدو له غاية في الأهمية والوضوح ولذلك عليه ان يتحاشى هذا الخطأ بأن يكون موضوعيا الى أقصى حد وذلك بالبحث بدقة موضوعية عن الحالات الممثلة لغيرها،ويتطلب ذلك إجراء بحث إحصائي أولي او تعرف شامل عام كلما أمكن ذلك قبل إجراء أي اختبار،ويتمعن في الحالات التي سيضعها تحت الدراسة،وبمعنى أخر،ان اختيار حالات البحث لا يأتي اعتباطيا بل يبنى على أساس الفروض ونوع الموضوع الذي يرغب الباحث في دراسته،بجانب معرفة واسعة لنوع المجتمع،الذي سيؤخذ منه الحالات والعلاقات الاجتماعية،ولا يغيب عن الذهن ان اختيار الحالات وتجميع البيانات سيخلو تماما من عنصر الذاتية وعنصر الحكم الشخصي ويتطلب ذلك يقظة الباحث وبخاصة عند تحليل البيانات للوصول الى النتائج(159).
خطوات دراسة الحالة:
يتضمن البحث في منهج دراسة الحالة عدة خطوات هي:(160)
يقوم الباحث باختيار الحالات التي تمثل المشكلة المطلوب دراستها وفي هذه الخطوة يتم التركيز على حالات نموذجية او عينات عشوائية من المشكلة،كما يراعى ان تكون العينة كافية،وان يقتصر الباحث على حالات قليلة ودقيقة مما يؤدي الى دراستها بدقة وشمول في وقت واحد.
يجمع الباحث المعلومات ويفحصها جيدا،وهذا يتم على ضوء فرضية أولية يضيفها الباحث،وان جزءا من المعلومات يمكن الحصول عليه من سجلات الافراد،وبعد جمع المعلومات يتم التأكد من صدقها ثم بعد ذلك يتم تنظيمها والتنسيق بين عناصرها.
يقوم الباحث بالتشخيص الأولي لعوامل المشكلة بعد جمع المعلومات وتدقيقها وتنظيمها ثم يبدأ بوضع الفرضيات التي تواجه الدراسة وتقود الى استنتاج دقيق،والفرضيات تأتي نتيجة التشخيص الأولي للعوامل التي تسبب المشكلة موضوع البحث.
في هذه الخطوة يقوم الباحث باقتراح نوع المعاملة او العلاج،حيث يبدأ يفكر في نوع المعالجة في ضوء شدة الحالة او قسوتها وفقا لظروف بيئية تساعد على نجاح العلاج.
المتابعة والاستمرار حيث يقوم الباحث بمراقبة استجابة الفرد للعلاج،وهذه الخطة تمثل اختبار لصدق التشخيص(161).

مميزات دراسة الحالة:
تركز دراسة الحالة على الوحدة الكلية لمعرفة سماتها،وهي أسلوب تنظيم المعطيات الخاصة بوحدة مختارة،مثل تاريخ الحياة للفرد الواحد او جماعة ما او وحدة اجتماعية معينة،ويتميز منهج دراسة الحالة عن المناهج الأخرى بالعمق والتركيز على موضوع معين أكثر مما يتميز بالتركيز على الجوانب المميزة ولذلك يشيع استخدام هذا المنهج في الدراسات المتعلقة بالخدمة الاجتماعية وفي الدراسات السيكولوجية(162).
ويمكن تحديد خصائص منهج دراسة الحالة في النقاط التالية:(163)
ـ التعمق في دراسة الوحدات المختلفة وعدم الاكتفاء بالوصف الخارجي.
ـ تحديد مختلف العوامل التي تؤثر في الوحدة والكشف عن العلاقات السببية بين أجزاء الظاهرة.
ـ انه طريقة للحصول على معلومات شاملة عن الحالات المدروسة.
ـ انه يهتم بالموقف الكلي وبمختلف العوامل المؤثرة فيه والعمليات التي يشهدها.
ـ انه طريقة تعتمد اعتمادا كبيرا على عنصر الزمن وبالتالي فهو يهتم بالدراسة التاريخية.
ـ انه منهج ديناميكي لا يقتصر على بحث الحالة الراهنة.
ـ يسعى الى تكامل المعرفة لأنه يعتمد على أكثر من أداة للحصول على المعلومات.
أهمية منهج دراسة الحالة:
إن أهم ما يميز منهج دراسة الحالة،هو ما يمكن الباحث من النفاذ الى أعماق الظواهر او المواقف التي يقوم بمعالجتها،بدلا من التركيز على الجوانب السطحية العابرة التي قد تكون ذات دلالة غير حقيقية،وبمعنى أدق، فإن دراسة الحالة هي مدخل ينظر الى أي وحدة اجتماعية نظرة كلية شاملة تستوعب هذه الوحدة وتنميتها.كما تعتبر دراسة الحالة مصدر للفرضيات التي تستدعي التحقق والاختبار عن طريق المزيد من المشاهدات ولكي يتمكن الباحث من اختبار الفرضيات ونتائج البحث،يجب ان تكون الحالات المدروسة ممثلة للمجتمع التي يراد التعميم عليه تمثيلا مناسبا،لذلك يجب استخدام الطرق والوسائل الموضوعية والدقيقة في جمع المعلومات وتفسيرها(164).
وتبرزأهمية منهج دراسة الحالة في كونه يساعد الباحث في الحصول على المعلومات الأساسية التي يمكن الاستفادة منها في تخطيط الدراسات الرئيسية في العلوم الاجتماعية ويوفر معلومات متعمقة ويبين المتغيرات والتفاعلات التي يتطلب دراستها شمولية أكثر.وعلاوة على ذلك فان المعلومات المتوافرة عن الموضوع تقود في معظم الأحيان إلى التوسع في مجال البحوث وخلق الرغبة في التطرق إلى بحوث جديدة وفي تكوين فرضيات لدراسات أخرى في المستقبل وتوضيح التأثيرات المختلفة للمتغيرات بصورة أكثر وضوحا من مجرد التحليل الكمي لها بإعطاء تفسير واضح للنتائج الاجتماعية،وربطها بالعوامل المختلفة التي أدت الى النتائج الحالية.
قصور منهج دراسة الحالة:
بالرغم من ان طريقة دراسة الحالة تقوم بإسهامات لا يمكن إغفالها،إلا أنها تتصف بالقصور في بعض النواحي مثل،ميلها إلى الذاتية وإمكانية التشكيك في مدى الثقة التي تعول على البيانات التي تأتي بها عن طريق استخدام هذا المنهج،كما قد يلجأ الباحث(باستخدام هذه الطريقة) الى تفسير الحالة المدروسة من وجهة نظره،وفقا لمشاعره الخاصة،او لجهله بأسس تصميم البحث العلمي،او صعوبة تحديد مدى صدق المعطيات وتفسيرها،كما يؤخذ على هذه الطريقة التعميم من حالات لا تشمل الواقع،وقد يرد على هذا النقد بأنه بامكان الباحث استخدام أدوات جمع بيانات مقننة على درجة من الثبات والصدق،كما أن الحالة التي يختارها الباحث كعينة للدراسة،قد لا تمثل المجتمع كله أو الحالات الأخرى،وقد تبرز بعض الشكوك في صحة البيانات المعممة وخاصة اذا كانت البيانات غامضة ومبهمة،وحاول الباحث ان يستغلها لأهداف وميول شخصية،أو قام بالتهويل لبعض جوانب الدراسة والتقليل من أهمية بعض الجوانب تبعا لنظرية أو سلوكه حيث يلجأ الباحث إلى التركيز على الجوانب التي تهمه ويهمل الجوانب التي تتناقض ومعتقداته(165).
وأخيرا لا بد من الإشارة الى نقطة منهجية هامة في استخدام منهج دراسة الحالة،وهي انه في دراسة الحالات قد يتخبط الباحث عند تعميم النتائج التي تؤخذ من حالات قليلة لا يمكن قياس المجتمع الأصلي بها،وهذا يعني ان عملية التعميم ترتبط ارتباطا مباشرا بمدى صحة العينة إحصائيا ودقتها.
ولا يغيب عن البال،بان الحالات التي تختار بطريقة عرضية لا تعتبر عينة صحيحة،ولذا فالنتائج التي يتم التوصل إليها من خلال تحليل هذه الحالات تقتصر فائدتها على توضيح بعض معالم الظاهرة او مشكلة الدراسة،ولا يجب اعتبارها نهائية،أما إذا تم اختيار المبحوثين بالطريقة الإحصائية السليمة بحيث تكون العينة ممثلة تمثيلا صحيحا للمجتمع،ففي هذه الحالة،يمكن تعميم النتائج التي يصل إليها الباحث،ولا يعني ذلك باي حال التخلي عن دراسة حالات قليلة،فإن وجود جانب سلبي في حالات مفردة سوف يحول الباحث الى الاحتمال الذي يساعده في تعديل فرضياته.
رابعا- منهج البحث التاريخي
يمثل منهج البحث التاريخي المراحل التي يسير خلالها الباحث حتى يبلغ الحقيقة التاريخية،ويقدمها الى المختصين بخاصة والقراء بعامة،وتلخص هذه المراحل في تزويد الباحث نفسه بالثقافة اللازمة له،ثم اختيار موضوع البحث،وجمع الأصول والمصادر واثبات صحتها وتعيين شخصية المؤلف وتحديد زمان التدوين ومكانه،وتحري الأصول وتحديد العلاقة بينها،ونقدها نقدا باطنيا ايجابيا وسلبيا،واثبات الحقائق التاريخية وتنظيمها وتركيبها وتعليلها وإنشاء الصيغة التاريخية ثم عرضها عرضا تاريخيا معقولا(166).
أهمية دراسة التاريخ:
إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول والسوابق في القرون الأولى،وفي باطنه(التاريخ)نظر وتحقيق وتعليل وعلم بكيفيات الواقع وأسبابها(167).
ويقول ابن خلدون في مقدمته:ان فن التاريخ فن غزير المذهب جم الفوائد،شريف الغاية فهو يوقف القارئ على أحوال الماضي من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم،حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يروقه في أحوال الدين والدنيا(المؤرخ) فهو محتاج الى معارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفيضان الى الحق وينكبان عن المزلات والمغالط،لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل لم يؤمن مزلة القدم.وهكذا فان دراسة التاريخ هي تأمل بعمق في المصادر فهو يحكي قصة تجربة الإنسان في هذا الكون الذي عاش في مجتمع متمدن.
وإذا كان التاريخ يكون من الوقائع والأحداث والحقائق التاريخية التي حدثت في الماضي مرة واحدة،ولن تتكرر أبدا على أساس ان التاريخ يستند إلى عنصر الزمن المتجه دوما إلى الأمام دون تكرار ورجوع إلى الوراء(168).فإن لدراسة الوقائع والأحداث التاريخية قيم ومزايا جمة في فهم ماضي الأفكار والحقائق والظواهر والأحداث والحركات والمؤسسات والنظم،وفي محاولة فهم حاضرها والتنبؤ بأحكام وأحوال مستقبلها على ضوء دراسة تاريخ ماضيها(169).
وينقسم أسلوب الكتابة التاريخية من حيث طريقة المعالجة الى ثلاثة انواع هي (170): التاريخ الأثري القديم،والتاريخ النقدي،والتاريخ ألاستردادي،أما النوع الأول(التاريخ الأثري) فهو الذي يتمثل في هالات وردهات المتاحف،وفي المتخلفات غير المنقولة كالأبنية والقصور والقلاع وأقواس النصر والنقوش المكتوبة على هذه الآثار والنصب التذكارية والأعمال الفنية الخالدة والاهرامات والآثار التي تدل على مناحي الحياة الاقتصادية والمنشأت العسكرية والدينية.
ويرتبط علم الآثار ارتباطا وثيقا بالتاريخ الأثري الى درجة ان الباحث في التاريخ القديم يعتمد على حكم الخبير الأثري،إلا ان عليه ان يبرهن كفاءته العلمية في مجال الدراسة والمقارنة لفهم مجرى الأحداث التاريخية وذلك بالاستعانة بالآثار التي تعتبر مصدرا أوليا للمؤرخ الأثري،وتبرز أهمية دراسة التاريخ الأثري في التأمل ومعرفة عظمة الماضي لتكون حافزا لبناء المستقبل على الرغم مما يعترض كتابة التاريخ القديم من مشاكل وغموض في بعض الأحيان واستنتاجات مبنية على الخيال.
أما النوع الثاني،فهو التاريخ النقدي وهو اخطر أنواع الكتابة التاريخية،وذلك عندما ينصب المؤرخ نفسه قاضيا يحاكم ويدين الأجيال والأفراد السابقين،لأن المؤرخ يحاول رسم الماضي ويفصل بين اختيار المادة التاريخية،وطريقة معالجتها باستخدام التحليل والنقد للوثائق التاريخية او العلمية،ولكن هذا هو ما يعرف بـ"المنهج الانتقائي"الذي يختاره المؤرخ لان الموضوعية في كتابة التاريخ تعتبر في نظر البعض مسالة نسبية،خاصة اثناء معالجة المسائل الدينية او
القومية لدى فريق من المؤرخين ومن ثم يخطئ المؤرخ في تفسير بعض الظواهر ويسوقها على أنها نظريات،وان كانت(هي) في الواقع مجرد وجهات نظر قد تكون مهمة وقد تكون سطحية في نظر القارئ.
وعلى الرغم من ضرورة التجرد العلمي في منهج البحث التاريخي إلا ان هناك حقيقة لا بد من التسليم بها،وهي ان تحقيق النقد الموضوعي الكامل،امر يعتبر ضربا من الخيال فبينما كان الاتهام يوجه الى مؤرخي الماضي بأنهم يفسرون الأحداث التاريخية وفق عواطفهم وقيمهم ومعتقداتهم السياسية.نجد ان المؤرخين المعاصرين يطالبون بالمحاكمة التاريخية للماضي- كما يقول نيتشه- ويطالبون بالحياد واللاشخصية في الكتابة التاريخية،كما يرى وولش الذي يحلل العوامل التي تؤدي الى الاختلاف بين المؤرخين في كتابة التاريخ منها:
ـ الأهواء الشخصية سواء أكانت حبا أو كراهية موجهة إلى أفراد أو جماعة أو طبقة أو شعب.
ـ التحيز مثل الانتماء سواء كان لمعتقد سياسي او ديني او عنصري او اجتماعي.
ـ وجود مدارس مختلفة للتفسير التاريخي.
ـ دور المعتقدات والقيم والأخلاق الأساسية.
اما النوع الثالث من الكتابة التاريخية،فهو التاريخ ألاستردادي او إعادة التجربة،فالمؤرخ لا يستطيع استعادة الماضي أو أن يبعث الحياة في ماضي انتهى،ولن يستطيع ان يمثل دور العظماء والقادة والفلاسفة والمؤرخ الذي يحاول ان يقف على مشهد الأحداث التاريخية الطويلة التي يحاول استعادتها سيجد نفسه محفوفا بالمخاطر لان عليه استيعاب تلك الأحداث في ذهنه.ولكن التاريخ ألاستردادي يعتبر ضروريا بالنسبة للإنسان الذي ينظر الى الماضي باحترام،فهو يحرص على احترام مخلفات الماضي من قيم ومعتقدات وآثار،لأنه يعيش بروح أمته عبر تاريخها الطويل وأمجادها.
ويمكن تقسيم دراسة التاريخ من حيث كونه علما وفق العامل الزمني او العامل الجغرافي(حسب المناطق)او حسب الموضوع كالتاريخ السياسي او الاقتصادي،التاريخ الاجتماعي او التاريخ الثقافي او التاريخ الدستوري.ويمكن للطالب ان يحدد الفرع الرئيسي الذي يود استكمال دراسته فيه من خلال هذه التقسيمات،وحين يختار الطالب الفرع الذي يرغب في متابعة دراسته فيه،عليه ان يحدد الفترة الزمنية مثلا(من عام....الى عام....)والموضوع الذي يميل الى دراسته أكثر من غيره،وان تكون قراراته منطقية،تعتمد على الأسلوب العلمي من حيث توفر المصادر والمراجع والإشراف العلمي ودراسة ظروف البيئة المحلية كالأوضاع السياسية والاجتماعية والقيم الدينية(171).
خطوات المنهج التاريخي:
يتضمن البحث التاريخي عدة خطوات أساسية متشابكة ومتداخلة ومترابطة ومتكاملة في تكوين هوية وبناء المنهج التاريخي ومضمونه كمنهج من مناهج البحث العلمي يقود الفعل الإنساني بطريقة علمية منتظمة ودقيقة للوصول الى الحقيقة التاريخية(172).
وهناك خطوات او مراحل في حالة استعمال الأسلوب التاريخي نوجزها فيما يلي:
1ـ اختيار موضوع البحث وتحديده:
ويقصد بذلك تحديد المشكلة العلمية التاريخية التي تمثل موضوع البحث التاريخي التي تقوم حولها التساؤلات والاستفسارات العلمية التاريخية،الأمر الذي يؤدي الى تحريك عملية البحث لاستخراج فرضيات علمية تكون الإجابة العلمية الصحيحة والثابتة،ويتم اختيار موضوع البحث التاريخي على ضوء المعايير المتعارف عليها لاختيار هذه التساؤلات مشكلات البحوث،مع الأخذ في الحسبان أبعاد جديدة تتعلق بالمكان والزمان التي حصلت فيه الظاهرة او تم فيه الحدث التاريخي،وكذلك نوع الأنشطة التي تضمنها والأشخاص الذين تناولهم.فالمشكلة العلمية التاريخية هي تلك الفكرة المحركة والفائدة التي توجه الباحث العلمي حتى الوصول الى فرضيات ونظريات وقوانين علمية ثابتة وعامة تفسر وتكشف الحقيقة العلمية التاريخية لهذه الفكرة(173).
وتعتبر عملية تحديد المشكلة تحديدا واضحا ودقيقا احد اهم شروط نجاح البحث العلمي والوصول الى الحقيقة التاريخية لذلك يتعين على الباحث في هذه المرحلة مراعاة الشروط التالية:(174)
ـ ان تكون المشكلة معبرة عن العلاقة بين متحولين او اكثر
ـ صياغة المشكلة صياغة جيدة وواضحة وكاملة جامعة لكافة عناصرها
ـ ان تكون عملية تحديد المشكلة وصياغتها يتلائم مع استخدام البحث
العلمي التجريبي والمخبري وان يصاغ بطريقة علمية
(2) حصر وجمع الوثائق التاريخية:
بعد تحديد موضوع او مشكلة البحث وصياغتها،تأتي الخطوة الثانية وهي جمع كافة الحقائق والوثائق المتعلقة بهذه المشكلة حيث يقوم الباحث بجمع المعلومات من مصادرها الأولية والثانوية،وبطبيعة الحال فان المصادر الأولية مفضلة عن المصادر الثانوية في حالات كثيرة(175).
وتشمل المصادر الأولية كلا من الآثار والوثائق،أما الآثار فهي بقايا حضارة ماضية او أحداث وقعت في الماضي،أما الوثائق فهي سجلات لأحداث او وقائع ماضية قد تكون مكتوبة او مصورة او شفهية،أما السجل الكتابي فيشمل المخطوطات والرسائل والمذكرات والسجل المصور غالبا ما يضم الفنون المختلفة من نحت ورسم وكذلك عبارات التحية والمجاملة والرقصات والأغاني الشعبية هي بدورها تشكل مصدرا هاما للتعرف على طابع الحياة الاجتماعية والثقافية في المجتمع.
أما المصادر الثانوية،فهي تشتمل على الأبحاث والدراسات التاريخية والأدبية والفلسفية والاطروحات العلمية والصحف والدوريات وهي ذات قيمة علمية للمؤرخ لأنها مبنية على استقصاء علمي ويمكن استخدامها بثقة اكبر،رغم ان الاستفادة من المصادر الأولية،التي اشرنا إليها سابقا، تعتبر أفضل من المصادر الثانوية كما يمكن الاستفادة من الدراسات الوصفية التي أجريت سابقا،والتي لا يمكن تكرارها فهي تعتبر مصدرا توثيقيا كما تعتبر الدراسات الأدبية والفلسفية المصدر الرئيسي للمعلومات في هذا النوع من الدراسة الى جانب انها تزود الباحث التوثيقي بمواد ومعلومات شريطة دراستها دراسة علمية،كما يمكن الاستفادة من الصحف والمجلات والدوريات في البحث التاريخي فهي تمد الباحث بمعلومات أساسية وتعتبر سجلا ثابتا الى حد ما للأحداث العالمية واليومية.
وخلاصة القول،أن على الباحث الاستفادة من المصادر على مختلف مستوياتها وعلى أية حال،فإن التزود بالمادة العلمية الأصلية والثانوية
يعتبر أمرا أساسيا ينبغي ان يوليه الباحث بالغ اهتمامه،وتتحدد قيمة البحث من الاستعانة بالمصادر وتحديد واختيار المادة العلمية المتعلقة
بمشكلته،وأحيانا قد لا تكون هذه المصادر سهلة المنال بل تحتاج الى كثير من الجهد والبراعة لاكتشافها،ومن الواضح إن المشكلة العلمية لا يمكن حلها بدون إجراء دراسة للمواد التي تشتمل على الحجج الرئيسية،ونؤكد على أهمية الحصول على المصادر الأصلية بقدر الامكان،وعلى الباحث ان يبذل أقصى جهده في سبيل ذلك.
(3) تقييم المادة العلمية التي جمعت:
بعد ان ينتهي الباحث من خطوة حصر المصادر وجمع المادة التاريخية واستيعاب المبادئ الأساسية للعلوم الموصلة،تأتي مرحلة تقييم المادة التي جمعها ويعتبر الشك هو بداية الحكمة في الدراسات التاريخية،ولكي يعطي المؤرخ للبشرية وصفا صادقا لأحداث الماضية يخضع المادة التي يرجع إليها لنقد خارجي وداخلي صارم،وفي مرحلة النقد الخارجي يحاول المؤرخ عن طريق النقد للوثائق ان يتأكد من صدق الوثيقة التي بين يديه وذلك لكي يقرر ما اذا كان سيقبلها كدليل في بحثه،ويثير المؤرخ تساؤلات كثيرة حتى يكتشف مصادر المادة الأصلية،مثل،متى ولماذا ظهرت هذه الوثيقة؟ومن هذا المؤلف او الكاتب؟ وهل كتب المؤلف مادة هذه الوثيقة فعلا؟وهل هذه هي النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف ام نسخة أخرى عنها؟ وإذا لم تكن فهل يمكن العثور على الأصل؟وهذه التساؤلات يظل الباحث يثيرها حتى يعرف متى ظهرت الوثيقة وأين ولماذا؟ ومن الذي كتبها؟(176).
وباختصار،فإن النقد الخارجي للوثائق التاريخية يستهدف التعرف على اصل واصالة الوثيقة والتأكد من مدى صحتها وكذا ترميم وتصحيح اصل الوثيقة اذا ما طرأت عليها تطورات وتغيرات في حالتها وإعادتها الى أولى حالتها ووضعها الأصلي(177).
فالنقد الخارجي للوثيقة التاريخية ينصب على اثبات مدى صحة وسلامة الوثائق وعلى إثبات مدى صحة المصدر أي التأكد من هوية وشخصية المؤلف الأصلي وهل المعلومات التي وردت في نص الوثيقة تتفق والمستوى العلمي للمؤلف وذلك ليصل الباحث الى حكم معقول فيما يتعلق باصالة الوثيقة.
وقد أشار المؤرخ حسن عثمان في كتابه(منهج البحث التاريخي)الى الاحتمالات التي تتقرر في عملية النقد الخارجي للوثائق والتي تكون عليها الوثيقة،وهي ان تتوفر النسخة الأصلية(الام) وهي التي بخط المؤلف والاحتمال الثاني ان تكون الوثيقة الأصلية مفقودة،وفي هذه الحالة يتعين على الباحث ان يتحرى الدقة لتحقيق النص لاحتمال وجود أخطاء من النسخ كالتحريف والتزييف كما يحتاج الباحث الى معرفة الخطوط والاحتمال الأخير توفر عدة نسخ منقولة عن الأصل وقد يوجد تشابه او اختلاف بين النسخ(178).
أما التقييم الداخلي للوثائق فهو عكس النقد الخارجي الذي يركز على ماهية الوثيقة،يركز او ينصب على ما تقوله الوثيقة(أي المعنى) وما توفيه الأخبار الواردة فيها بوجه عام،وبمجرد أصالة الوثيقة فانه يتم تقييمها كمصدر للمعلومات ومعرفة نوع البيانات التي تقدمها للدراسة التي يقوم بها الباحث من اجل دراسة المشكلة وعند دراسة وثيقة تتلعق بالماضي فإن اول سؤال يطرأ على ذهن الباحث ذلك السؤال المتعلق بالمعنى او التفسير.
وعند معالجة السجلات المكتوبة"يجب على الباحث التحقق من معاني الكلمات والرموز وتحليل وفهم البيانات الوارد في الوثيقة على النحو الكامل،وهذا قد يتضمن قراءة لغة أجنبية وحل الغاز شيفرة معينة او ترجمة لغة من اللغات لم تعد مستخدمة في الوقت الحاضر.
وينبغي الحذر أثناء استنباط المعاني وعدم الشروع في إصدار التعميمات وتمييز المعلومات التاريخية ومدى صدقها والتدقيق في المعاني وصياغة الفرضيات العلمية للوصول الى إجابات مقنعة،لأن البحث التاريخي لا يهدف فقط الوصول الى المعلومات بل ان أهم النتائج التي تتمخض عن أي بحث تكمن في التعميمات او المباديء التي تستخلص من الحقائق والتي يقدمها منهج البحث التاريخي.
ويحتل التأويل مركزا هاما في البحوث التاريخية والأدبية وتتميز بعض الأعمال الأدبية بمعان استعارية او خفي على الباحث استيعابها كموضوعات الهجاء،وان تأويل معاني وثيقة معينة قد يكون في غاية البساطة او غاية التعقيد،فهو قد يتطلب في بعض الحالات معرفة تامة بالتاريخ والسياسة واللغويات والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس وبعض فروع المعرفة الأخرى.ومع ذلك يدلنا الإدراك السليم على ان فهم المعنى الحقيقي للمعلومات الواردة في وثيقة ما يعتبر جوهريا اذا كان الباحث ينوي الاعتماد عليها كبيانات أساسية في حل مشكلته ويتم استنتاج الحقائق التاريخية عن الوثيقة بطرح سلسلة من الأسئلة مثل:ماذا يقصد المؤلف؟ماذا يعني هذا النص؟هل ان الكاتب يتحدث بأسلوب مباشر؟هل هناك فورية في الأحداث والصور والتعبيرات؟وسيجد الباحث نفسه يطرح الأسئلة بهدف الوصول الى ربط الأحداث والأفكار والمعاني الواردة في الوثيقة لتحيد الهدف النهائي من النقد وهو قبول او رفض الوثيقة من خلال التحليل النقدي الكلي والجزئي للمعلومات والمعاني الظاهرة والمتخفية من خلال النظر الميكروسكوبي،وقد يلمس الباحث غموضا أو نقصا أو تناقصا في المعنى اذا استمسك بظاهر النص،قد يكون في الكلام كناية أو مجاز أو استعارة أو تشبيه أو هزل أو مداعبة أو تلميح أو تعريض...الخ.
وبإيجاز شديد،يمكن القول،ان عملية التقييم الداخلي لوثيقة ما يشتمل على عنصرين أساسيين:
ـ تحليل المعنى:ويشتمل ذلك استنباط المعاني والمعلومات الظاهرة والمستترة من خلال التحليل الجزئي والكلي للوثيقة.
ـ أسباب كتابة الوثيقة:ويمكن معرفة ذلك من خلال أسئلة محددة يوجهها الباحث للوصول الى إجابات مقنعة حول الملابسات والظروف التي أدت الى إعداد الوثيقة والهدف من كتابتها(179).
4ـ عملية التركيب والتفسير التاريخي(أي صياغة الفرضيات وتحقيقها):
بعد جمع المعلومات وفحصها ونقدها وتحليلها داخليا وخارجيا،ينتقل الباحث الى الخطوة الرابعة وهي صياغة الفروض التي تفسر الأحداث والظواهر والتحقق من صدق كل فرض يفترضه في ضوء المعلومات والأدلة المتوفرة لديه والنتائج المترتبة عليه مستعملا في هذا التحقق جميع الطرق العلمية الممكنة(180)،وعلى الباحث او المؤرخ بعد صياغة الفروض ان يجمع الأدلة بعناية ويحللها ناقدا كي يتحقق من ان فرضه يعطي تفسيرا اكثر إقناعا من الفروض الأخرى(181).
وتبدأ الفرضية في البحث التاريخي على هيئة تصور ذهني عام ينطلق منه الباحث فيعمل على تجميع البيانات الممكنة التي يحتمل ان تزيد هذا التصور جلاء ووضوحا،حين تترابط في كل ذو معنى،مما يؤدي الى مراحل متقدمة في صورها المعدلة وليس في صورتها الأصلية
التي مثلت نقطة الانطلاق في البحث.والفكرة الأساسية في البحث التاريخي هي قدرة الباحث في تركيب المادة التي يجمعها في إطار موحد لا تناقص فيه،فمثل هذا التجمع يكون سهلا في البحوث الاخرى نسبيا،اما في البحث التاريخي فهو يتصل بماضي انتهى ولا تتوافر عنه الا بيانات جزئية غير محققة ويخضع لتفسيرات وتأويلات متباينة ولذلك فالفروض في البحوث التاريخية وان تشابهت مع الفروض في البحوث الاخرى تظل ذات طبيعة مميزة(182).
5ـ استخلاص النتائج وتحليل تقرير البحث:
في هذه المرحلة يبدأ الباحث باستخلاص النتائج وكتابة تقرير البحث الذي يلخص فيه الحقائق والنتائج التي توصل إليها بأسلوب علمي بعيد عن المبالغات والخيال والمحسنات البديعية المبالغ فيها(183).
ولا يغيب عن الذهن،ان اهم ما يهدف اليه أي بحث علمي إنما هو الوصول الى نظرية او قانون او مبدأ او تقييم معقول،او حتى تلك العلوم التطبيقية التي توصل فيها العلماء الى نظريات وقوانين خلال القرون السابقة.
وهكذا نرى ان كتابة التاريخ تستلزم الاعتماد على الأسلوب العلمي في تحقيق الأحداث التاريخية والاستعانة بالعلوم الحديثة في تمحيص النصوص والنقد الخارجي والداخلي لمحتويات الوثيقة بالإضافة الى أهمية الوصول إلى تعميمات وقوانين عامة واستنباط هذه القوانين من خلال الظواهر التاريخية.(* كاتب باحث في الدراسات الأكاديمية ـ عن كتاب:منهجية البحث العلمي واعداد الرسائل الجامعية..للكاتب نفسه)