د/ربيع أحمد
12-31-07, 04:09 PM
غاية الإيجاز في الرد على من نفى وجود المجاز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الباعث على كتابة هذه الكلمة الرد على من نفى المجاز بأسلوب مختصر فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان وغالب من كتب فيه من أهل الكلام الذين أولوا صفات الرحيم الرحمن فالله المستعان وعليه التكلان . فصل مفهوم الحقيقة والمجاز : اللفظ في اللغة العربية قد يستعمل فيما وضع له في اللغة فلا يحتاج لدليل لكي يفهم معناه ، وهذا يسميه غالب علماء اللغة حقيقة ، وقد يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في اللغة لعلاقة بين اللفظ والمعنى المراد ، فيحتاج هذا اللفظ لدليل يدل على معناه وهذا يسميه غالب علماء اللغة مجاز لذلك فالحقيقة هي ما سبق إلى الفهم من معنى اللفظ دون الحاجة لدليل ( قرينة ) ،والمجاز هو ما لا يسبق إلى الفهم من معنى اللفظ إلا بوجود دليل فقولك رأيت الرجل يتكلم حقيقة فمن الطبيعي أن يتكلم الإنسان ، و الرجل إنسان أما قولك رأيت القمر يتكلم فيستحيل أن يكون هذا الكلام على الحقيقة ؛ لأن الكلام من صفات البشر والقمر ليس بشراً إذاً هذا مجاز شبه الإنسان بالقمر لوجود علاقة بينه وبين القمر وهي الجمال ، وقولك على شخص أنه شجاع فهذا حقيقة أما قولك على شخص أنه أسد فهذا مجاز لاستحالة أن يكون الشخص أسداً فالأسد حيوان أما هذا الشخص فإنسان أي أنك شبهت هذا الشخص بالأسد لوجود علاقة بينه وبين الأسد ، وهي الشجاعة . فصل أدلة ثبوت المجاز : إن أدلة ثبوت المجاز كثيرة ومنها العمل عمل العرب بمقتضى المجاز فالعرب كانوا يفهمون المعنى الموضوع للفظ في اللغة عند إطلاقه ، ويفهمون المعنى غير الموضوع للفظ في اللغة عند تقييده فالعرب استعملت بعض الألفاظ في معنيين عند الإطلاق يفهم المعنى الموضوع لهذه الألفاظ في الأصل ، وعند التقييد يفهم المعنى المنقول إلى هذه الألفاظ فكلمة أسد عند الإطلاق يراد بها السبع ، وعند نسبتها لإنسان ( تقييد ) يراد بها الشجاعة ، و العرب عند إطلاق كلمة الحمار عند الإطلاق يراد بها البهيمة ،وعند نسبتها لإنسان ( تقييد ) يراد بها الغباء والحماقة ،والعرب عند إطلاق كلمة القمر تريد هذا الجرم السماوي ، وعندما تنسبه إلى إنسان تريد الجمال والحسن والعرب عند إطلاق الكلب تريد هذا الحيوان المعروف ، وعندما تنسبه لإنسان تريد الوقاحة والحقارة ،والعرب عند إطلاق كلمة النخلة تريد هذه النخلة المعروفة ، وعندما تنسبها لإنسان تريد الطول ،ولو كان المعنيان قد وضعا في الأصل معاً للفظ لما سبق إلى الفهم أحد المعنيين دون الحاجة لدليل (القرينة ) ، ومن أدلة وجود المجاز ذكر بعض علماء القرون الثلاثة الأول المجاز كأبي عبيدة معمر بن المثني 114 هـ - 210 هـ عالم لغة له كتاب مجاز القرآن[1] وله كتاب المجاز[2] ، ومن العلماء الذين ذكروا المجاز الخليل الفراهيدي 100هـ -174 هـ قال في كتابه الجمل في النحو : ( وكذلك يلزمون الشيء الفعل ولا فعل وإنما هذا على المجاز كقول الله جل وعز في البقرة ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾[3] والتجارة لا تربح فلما كان الربح فيها نسب الفعل إليها ومثله : ﴿جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ﴾[4] ولا إرادة للجدار )[5] ، ولأبي العباس أحمد بن يحيى المشهور بثعلب النحوي المتوفى سنة 291هـ كتاب قواعد الشعر أكثر من ذكر الاستعارة فيه والاستعارة ضرب من المجاز ،وقال ابن السراج النحوي المتوفى 316 هـ في كتابه الأصول في النحو : ( وجائز أن تقول لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه وهذا مجاز )[6] ، وقال أبو العباس المبرد في كتابه المقتضب : ( وقد يجوز أن تقول أعطي زيدا درهم وكسي زيدا ثوب لما كان الدرهم والثوب مفعولين كزيد جاز أن تقيمهما مقام الفاعل وتنصب زيداً ؛ لأنه مفعول فهذا مجاز )[7]ومن الفقهاء الذين ذكروا المجاز في كتبهم محمد بن الحسن الشيباني 132 هـ - 189 هـ حيث قال في كتابه الجامع الصغير: ( فالحاصل أن أبا يوسف أبى الجمع بين النذر واليمين ؛ لأن هذا الكلام للنذر حقيقة ولليمين مجاز والحقيقة مع المجاز لا يجتمعان تحت كلمة واحدة فإن نواهما فالحقيقة أولى بالاعتبار ؛ لأن الحقيقة معتبر في موضعه والمجاز معتبر في موضعه )[8] ، ومن علماء الحديث الذين ذكروا المجاز في كتبهم ابن قتيبة حيث قال ابن قتيبة : ( والنبات لا يجوز أن يكون شراباً ، وإن كان صاحبه يستغني مع أكله عن شرب الماء إلا على وجه من المجاز ضعيف ، وهو أن يكون صاحبه لا يشرب الماء فيقال إن ذلك شرابه ؛ لأنه يقوم مقام شرابه فيجوز أن يكون قال هذا إن كانت الجن لا تشرب شراباً أصلاً )[9] ومن هنا ندرك أن المجاز ثابت في كتب الفقه واللغة والحديث في القرون الثلاثة الأول فهذا دليل على وجود المجاز . فصل حجج من نفوا المجاز والرد عليها : رغم أن أدلة وجود المجاز واضحة إلا أن بعض العلماء الأفاضل خالف ونفى المجاز ومنهم ابن تيمية وابن القيم من القدامى وابن عثيمين والشنقيطي من المحدثين ، وأدلتهم عدم قول سلف الأمة كالخليل ومالك والشافعي وغيرهم من اللغويين والأصوليينوسائر الأئمة بالمجاز فهو إذن قول حادث ، والجواب على ذلك أنه لو سلمنا جدلاً تنزلاً معهم بعدم قول أحد من السلف بالمجاز فليس معنى هذا عدم وجود المجاز فلا ينتسب لساكت قول ، وهناك فرق بين وجود العلم وتدوين العلم فالعلم موجود في ذهن العلماء ، ولكن لم يقم أحد بتدوينه بعد وكان المجاز مستقراً في نفوس العرب فالعربي مثلاً لم يقسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف ، ولكن استخدم الاسم والحرف والفعل فالتدوين يكشف عن وجود الشيء ( العلم )، وليس منشئا له فوجود العلم يعرف بالعمل بمقتضى العلم ويعرف بتدوينه ، والعرب كانوا يفهمون معنى للفظ عند الإطلاق ويفهمون معنى أخر للفظ عند التقييد فالأول سميناه حقيقة والثاني مجاز ولا مشاحة في الاصطلاح ثم قد ذكر بعض علماء اللغة والفقه والحديث المجاز في كتبهم ، وعليه يسقط هذا الدليل ، و أنكر نفاة المجاز أن يكون للغة وضع أول تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ في غير ما وضع له ،والقول بأن أصل اللغة إلهام من الله ثم كان النطق بألفاظ مستعملة فيما أريد منها نقول هذا الكلام غير مسلم ؛فالخلاف في أصل اللغات وواضع اللغة هل اللغة كانت بإلهام من الله أم بالتقليد أم بالتوقيف ؟ فالخلاف في واضع اللغة يثبت أن للغة وضعا فالوضع ملازم لكل مذهب من هذه المذاهب ، والمراد بالوضع النطق أول مرة باللفظة دالا على معناه سواء كان مصدره الإلهام أو التقليد أو التوقيف والخروج عن الدلالة الأولى للألفاظ مستساغ ومعقول، فبعد استقرار استعمال الكلمة فيمعناها الذي كانت هي من أجله يقع فيها التصرف باستعمالها في دلالة أخرى هي الدلالةالمجازية ،وتلازم الوضعللاستعمال مثل تلازم الحياة للحي، ويستحيل استعمال لفظ بمعزل عن اللفظ نفسه، كمايستحيل وضع لفظ بمعزل عن الاستعمال ؛ لأن الواضع يضع اللفظ ويعينه للدلالة على معنى،وتصور وضع لفظ دون أن تكون حقيقة معناه ومسماه ماثلة في ذهن الواضع مستحيلفمن يرى أن أصل اللغة إلهام من الله ، واستعمال لا وضع متقدم على الاستعمال . فحين ألهم اللهالإنسان أن يستعمل كلمة ( بحر) لصحة هذا الاستعمال فلابد من أحد أمرين
إمارؤية مجتمع الماء عيانا حين الاستعمال أو تخيل تلك الصورة إذا لم تكنحاضرة مرئية. وفي كلتا الحالتين فكلمة بحر اخترعت مقرونة بالاستعمال إما حسا وإمامعنى. ومستحيل أن تخترع كلمة (بحر) أو توضع وليس في ذهن الواضع أو المخترع تصورلمسماها فلو سلمنا أن الاستعمال سابق على الوضع فالكلمة في أول استعمال لها حقيقة، وحين تستعمل استعمالا ثانيا بينه وبين الاستعمالالأول صلة معتبرة ، ووجد في السياق دليل يرجح أو يوجب الأخذ بمعنى الاستعمالالثاني دون الأول كان المجاز لا محالة ، وأنكر نفاة المجاز التجريد والإطلاق في اللغة فلا يجوزون القول بأن الحقيقة ما دلت على معناها عندالإطلاق والخلو من القرائن ، والمجاز ما دل على معناه بمعونة القيود والقرائن أي كل الألفاظ في اللغة لم ترد إلا مقيدة بقيود وقرائن توضح المعنى المراد منها فالقول بورود الألفاظ مجردة أو أنها بدون أية قرائن أو قيود تفيد معنىوبالتالي يكون المجرد منها حقيقة والمقيد بالقرائن مجاز قول خطأ ، ومعنى هذا الكلام إنكار أن يكون هناك معنى يسبق إلى الفهم عند إطلاق اللفظ ، وتجرده عن قرائن ، وهذا الكلام يخالف ظاهر القرآن حيث قال تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾[10] وأسماء الذوات الألفاظالدالة على الأشياء مثل: أرض-سماء-بحر- فرس- إنسان.. إلخ حيننطق الإنسان الأول بها فمن المؤكد أنه نطق بها مجردة قاصدا بها الدلالةعلى الصورة المتكاملة – سمعية بصرية حسية- كما هي مختزنة في خياله فآدم عليه السلام أطلق الاسماء كالشجرة والبحر ..وأراد هذه الذوات نفسها أي أطلق الشجرة وأراد الشجرة وأطلق البحر وأراد البحر فثبت أن هناك ألفاظاً مجردة عن القرائن يقصد بها الوضع الأول أو الاستعمال الأول للكلمة فالألفاظ عند تجردها عن القرائن يسبق إلى الفهم ويتبادر إلى الذهن معنى هذا المعنى هو الذي وضع اللفظ له في الأصل فعند إطلاق كلمة عين يتبادر للذهن العضو الباصر ، وعند إطلاق كلمة الأنف يقصد بها العضو الشام فإن قيل لماذا لانقول إن تعدد المعاني من باب الاشتراك اللفظي ، وليس من باب المجاز ؟ نقول هذا لا يصح ؛ لأن اللفظ يحمل على المعنى المجازي عند وجود القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، وعند عدم وجود هذه القرينة فاللفظ يحمل على المعنى الحقيقي المتبادر للفهم بخلاف الاشتراك فإنه بدون القرينة يجب التوقف ، والذين نفوا المجاز أبطلوا استدلال الجمهور ببعض الآيات كقوله تعالى ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ﴾[11] فقالوا بأن هذا على الحقيقة ونقول لهم نسبة الإرادة إلى الجدار في الآية مجازية ؛ لأن الله يقول ( فوجدا فيها جدارا ) أي أن جملة يريد أن ينقض صفة للجدار أي هذه هي الصفة التى رأى موسى عليه السلام والخضر الجدار عليها ، والإرادة لا ترى فيستحيل قطعاً أن يكون المراد بإرادة الجدار الانقضاض الإرادة الحقيقية ، وإنما المراد اقتراب الجدار من السقوط ، وعليه فهذه الآية دليل على وجود المجاز . وقال الذين نفوا المجاز يلزم من وجود المجاز الاختلال في التفاهم إذ قد تخفى القرينة ، نقول هذا على اعتباركم أنه لابد للفظ من قرينة تدل على معناه أما القائلون بالمجاز فيقولون ما يحتاج لقرينة هو المجاز فقط أما الحقيقة فتدل على معناها بلا قرينة هذه هي أهم حجج القوم رددنا عليها . فصل حد المجاز في القرآن والسنة : ليس معنى وجود المجاز في القرآن والسنة القول به مطلقاً بلا دليل فالضابط أن اللفظ إذا وجد دليل صحيح على أنه منقول عن وضعه في اللغة إلى معنى آخر وجب العمل بالمعنى المنقول إلى اللفظ و إلا فالأصل في الكلام الحقيقة ما لم يأت دليل ، فليس كل ما يستحيل عقلاً يكون مستحيلاً شرعاً ؛ لأن اللغة هي المعبرة عما يستعمله الناس في أغراضهم ، والناس عقولهم لا تدرك إلا المحسوسات ، و لا تدرك الغيبيات لذا الأمور الغيبية لا نحكم فيها عقولنا ، فما أخبر ربنا عنه نؤمن به ولا نحرفه عن معناه فقد قال تعالى : ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾[12] فالله أثبت أن الأشياء تسبحه فنقول كل الأشياء تسبح الله بما يليق بها أن تسبحه ،والله أعلم بكيفية هذا التسبيح ، ولا ننفي التسبيح عن هذه الكائنات لاستحالة إدراكنا هذا التسبيح ، ويجب ألا نتخذ إثبات المجاز في القرآن ذريعة لتأويل صفات الله كما يفعل أهل الكلام فنؤمن بما وصف الله به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه r نؤمن بمعنى الصفة ونفوض كيفية الصفة لله عز وجل فمثلاً قوله تعالى :﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾[13] الله أثبت أن له يدا نقول الله له يد تليق به ليست كيد المخلوقين ؛ لأنه قال :﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾[14]و قال تعالى : ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[15] فليس معنى اتفاق التسمية اتفاق الحقيقة هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وكتب ربيع أحمد طب عين شمس الفرقة السادسة الأحد 30 محرم 1428هـ 18/2/2007 م
[1] - انظر الفهرست لمحمد بن إسحاق النديم ص79 دار المعرفة 1398 هـ
[2] - انظر كتاب كشف الظنون لمصطفى الرومي الحنفي 2/1456 دار الكتب العلمية 1413 هـ
[3] - البقرة من الآية 16
[4] - الكهف من الآية 77
[5] - الجمل في النحو للفراهيدي ص73 حققه الدكتور فخر الدين قباوة سنة النشر 1416 هـ
[6] - الأصول في النحو لابن السراج 1/400 مؤسسة الرسالة 1408 هـ الطبعة الثالثة تحقيق الدكتور عبد الحسين الفتلي
[7] - المقتضب للمبرد 4/51 عالم الكتب بيروت تحقيق محمد عبد الخالق عظيمة
[8] - الجامع الصغير لابن الحسن الشيباني ص 142عالم الكتب بيروت 1406 هـ
[9] - غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 272 مطبعة العاني بغداد 1397 هـ تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري
[10] - البقرة : 31
[11] - الكهف من الآية 77
[12] - الإسراء من الآية 44
[13]- المائدة من الآية 64
[14] - الشورى من الآية 11
[15] - النحل من الآية 60
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الباعث على كتابة هذه الكلمة الرد على من نفى المجاز بأسلوب مختصر فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان وغالب من كتب فيه من أهل الكلام الذين أولوا صفات الرحيم الرحمن فالله المستعان وعليه التكلان . فصل مفهوم الحقيقة والمجاز : اللفظ في اللغة العربية قد يستعمل فيما وضع له في اللغة فلا يحتاج لدليل لكي يفهم معناه ، وهذا يسميه غالب علماء اللغة حقيقة ، وقد يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في اللغة لعلاقة بين اللفظ والمعنى المراد ، فيحتاج هذا اللفظ لدليل يدل على معناه وهذا يسميه غالب علماء اللغة مجاز لذلك فالحقيقة هي ما سبق إلى الفهم من معنى اللفظ دون الحاجة لدليل ( قرينة ) ،والمجاز هو ما لا يسبق إلى الفهم من معنى اللفظ إلا بوجود دليل فقولك رأيت الرجل يتكلم حقيقة فمن الطبيعي أن يتكلم الإنسان ، و الرجل إنسان أما قولك رأيت القمر يتكلم فيستحيل أن يكون هذا الكلام على الحقيقة ؛ لأن الكلام من صفات البشر والقمر ليس بشراً إذاً هذا مجاز شبه الإنسان بالقمر لوجود علاقة بينه وبين القمر وهي الجمال ، وقولك على شخص أنه شجاع فهذا حقيقة أما قولك على شخص أنه أسد فهذا مجاز لاستحالة أن يكون الشخص أسداً فالأسد حيوان أما هذا الشخص فإنسان أي أنك شبهت هذا الشخص بالأسد لوجود علاقة بينه وبين الأسد ، وهي الشجاعة . فصل أدلة ثبوت المجاز : إن أدلة ثبوت المجاز كثيرة ومنها العمل عمل العرب بمقتضى المجاز فالعرب كانوا يفهمون المعنى الموضوع للفظ في اللغة عند إطلاقه ، ويفهمون المعنى غير الموضوع للفظ في اللغة عند تقييده فالعرب استعملت بعض الألفاظ في معنيين عند الإطلاق يفهم المعنى الموضوع لهذه الألفاظ في الأصل ، وعند التقييد يفهم المعنى المنقول إلى هذه الألفاظ فكلمة أسد عند الإطلاق يراد بها السبع ، وعند نسبتها لإنسان ( تقييد ) يراد بها الشجاعة ، و العرب عند إطلاق كلمة الحمار عند الإطلاق يراد بها البهيمة ،وعند نسبتها لإنسان ( تقييد ) يراد بها الغباء والحماقة ،والعرب عند إطلاق كلمة القمر تريد هذا الجرم السماوي ، وعندما تنسبه إلى إنسان تريد الجمال والحسن والعرب عند إطلاق الكلب تريد هذا الحيوان المعروف ، وعندما تنسبه لإنسان تريد الوقاحة والحقارة ،والعرب عند إطلاق كلمة النخلة تريد هذه النخلة المعروفة ، وعندما تنسبها لإنسان تريد الطول ،ولو كان المعنيان قد وضعا في الأصل معاً للفظ لما سبق إلى الفهم أحد المعنيين دون الحاجة لدليل (القرينة ) ، ومن أدلة وجود المجاز ذكر بعض علماء القرون الثلاثة الأول المجاز كأبي عبيدة معمر بن المثني 114 هـ - 210 هـ عالم لغة له كتاب مجاز القرآن[1] وله كتاب المجاز[2] ، ومن العلماء الذين ذكروا المجاز الخليل الفراهيدي 100هـ -174 هـ قال في كتابه الجمل في النحو : ( وكذلك يلزمون الشيء الفعل ولا فعل وإنما هذا على المجاز كقول الله جل وعز في البقرة ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾[3] والتجارة لا تربح فلما كان الربح فيها نسب الفعل إليها ومثله : ﴿جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ﴾[4] ولا إرادة للجدار )[5] ، ولأبي العباس أحمد بن يحيى المشهور بثعلب النحوي المتوفى سنة 291هـ كتاب قواعد الشعر أكثر من ذكر الاستعارة فيه والاستعارة ضرب من المجاز ،وقال ابن السراج النحوي المتوفى 316 هـ في كتابه الأصول في النحو : ( وجائز أن تقول لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه وهذا مجاز )[6] ، وقال أبو العباس المبرد في كتابه المقتضب : ( وقد يجوز أن تقول أعطي زيدا درهم وكسي زيدا ثوب لما كان الدرهم والثوب مفعولين كزيد جاز أن تقيمهما مقام الفاعل وتنصب زيداً ؛ لأنه مفعول فهذا مجاز )[7]ومن الفقهاء الذين ذكروا المجاز في كتبهم محمد بن الحسن الشيباني 132 هـ - 189 هـ حيث قال في كتابه الجامع الصغير: ( فالحاصل أن أبا يوسف أبى الجمع بين النذر واليمين ؛ لأن هذا الكلام للنذر حقيقة ولليمين مجاز والحقيقة مع المجاز لا يجتمعان تحت كلمة واحدة فإن نواهما فالحقيقة أولى بالاعتبار ؛ لأن الحقيقة معتبر في موضعه والمجاز معتبر في موضعه )[8] ، ومن علماء الحديث الذين ذكروا المجاز في كتبهم ابن قتيبة حيث قال ابن قتيبة : ( والنبات لا يجوز أن يكون شراباً ، وإن كان صاحبه يستغني مع أكله عن شرب الماء إلا على وجه من المجاز ضعيف ، وهو أن يكون صاحبه لا يشرب الماء فيقال إن ذلك شرابه ؛ لأنه يقوم مقام شرابه فيجوز أن يكون قال هذا إن كانت الجن لا تشرب شراباً أصلاً )[9] ومن هنا ندرك أن المجاز ثابت في كتب الفقه واللغة والحديث في القرون الثلاثة الأول فهذا دليل على وجود المجاز . فصل حجج من نفوا المجاز والرد عليها : رغم أن أدلة وجود المجاز واضحة إلا أن بعض العلماء الأفاضل خالف ونفى المجاز ومنهم ابن تيمية وابن القيم من القدامى وابن عثيمين والشنقيطي من المحدثين ، وأدلتهم عدم قول سلف الأمة كالخليل ومالك والشافعي وغيرهم من اللغويين والأصوليينوسائر الأئمة بالمجاز فهو إذن قول حادث ، والجواب على ذلك أنه لو سلمنا جدلاً تنزلاً معهم بعدم قول أحد من السلف بالمجاز فليس معنى هذا عدم وجود المجاز فلا ينتسب لساكت قول ، وهناك فرق بين وجود العلم وتدوين العلم فالعلم موجود في ذهن العلماء ، ولكن لم يقم أحد بتدوينه بعد وكان المجاز مستقراً في نفوس العرب فالعربي مثلاً لم يقسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف ، ولكن استخدم الاسم والحرف والفعل فالتدوين يكشف عن وجود الشيء ( العلم )، وليس منشئا له فوجود العلم يعرف بالعمل بمقتضى العلم ويعرف بتدوينه ، والعرب كانوا يفهمون معنى للفظ عند الإطلاق ويفهمون معنى أخر للفظ عند التقييد فالأول سميناه حقيقة والثاني مجاز ولا مشاحة في الاصطلاح ثم قد ذكر بعض علماء اللغة والفقه والحديث المجاز في كتبهم ، وعليه يسقط هذا الدليل ، و أنكر نفاة المجاز أن يكون للغة وضع أول تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ في غير ما وضع له ،والقول بأن أصل اللغة إلهام من الله ثم كان النطق بألفاظ مستعملة فيما أريد منها نقول هذا الكلام غير مسلم ؛فالخلاف في أصل اللغات وواضع اللغة هل اللغة كانت بإلهام من الله أم بالتقليد أم بالتوقيف ؟ فالخلاف في واضع اللغة يثبت أن للغة وضعا فالوضع ملازم لكل مذهب من هذه المذاهب ، والمراد بالوضع النطق أول مرة باللفظة دالا على معناه سواء كان مصدره الإلهام أو التقليد أو التوقيف والخروج عن الدلالة الأولى للألفاظ مستساغ ومعقول، فبعد استقرار استعمال الكلمة فيمعناها الذي كانت هي من أجله يقع فيها التصرف باستعمالها في دلالة أخرى هي الدلالةالمجازية ،وتلازم الوضعللاستعمال مثل تلازم الحياة للحي، ويستحيل استعمال لفظ بمعزل عن اللفظ نفسه، كمايستحيل وضع لفظ بمعزل عن الاستعمال ؛ لأن الواضع يضع اللفظ ويعينه للدلالة على معنى،وتصور وضع لفظ دون أن تكون حقيقة معناه ومسماه ماثلة في ذهن الواضع مستحيلفمن يرى أن أصل اللغة إلهام من الله ، واستعمال لا وضع متقدم على الاستعمال . فحين ألهم اللهالإنسان أن يستعمل كلمة ( بحر) لصحة هذا الاستعمال فلابد من أحد أمرين
إمارؤية مجتمع الماء عيانا حين الاستعمال أو تخيل تلك الصورة إذا لم تكنحاضرة مرئية. وفي كلتا الحالتين فكلمة بحر اخترعت مقرونة بالاستعمال إما حسا وإمامعنى. ومستحيل أن تخترع كلمة (بحر) أو توضع وليس في ذهن الواضع أو المخترع تصورلمسماها فلو سلمنا أن الاستعمال سابق على الوضع فالكلمة في أول استعمال لها حقيقة، وحين تستعمل استعمالا ثانيا بينه وبين الاستعمالالأول صلة معتبرة ، ووجد في السياق دليل يرجح أو يوجب الأخذ بمعنى الاستعمالالثاني دون الأول كان المجاز لا محالة ، وأنكر نفاة المجاز التجريد والإطلاق في اللغة فلا يجوزون القول بأن الحقيقة ما دلت على معناها عندالإطلاق والخلو من القرائن ، والمجاز ما دل على معناه بمعونة القيود والقرائن أي كل الألفاظ في اللغة لم ترد إلا مقيدة بقيود وقرائن توضح المعنى المراد منها فالقول بورود الألفاظ مجردة أو أنها بدون أية قرائن أو قيود تفيد معنىوبالتالي يكون المجرد منها حقيقة والمقيد بالقرائن مجاز قول خطأ ، ومعنى هذا الكلام إنكار أن يكون هناك معنى يسبق إلى الفهم عند إطلاق اللفظ ، وتجرده عن قرائن ، وهذا الكلام يخالف ظاهر القرآن حيث قال تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾[10] وأسماء الذوات الألفاظالدالة على الأشياء مثل: أرض-سماء-بحر- فرس- إنسان.. إلخ حيننطق الإنسان الأول بها فمن المؤكد أنه نطق بها مجردة قاصدا بها الدلالةعلى الصورة المتكاملة – سمعية بصرية حسية- كما هي مختزنة في خياله فآدم عليه السلام أطلق الاسماء كالشجرة والبحر ..وأراد هذه الذوات نفسها أي أطلق الشجرة وأراد الشجرة وأطلق البحر وأراد البحر فثبت أن هناك ألفاظاً مجردة عن القرائن يقصد بها الوضع الأول أو الاستعمال الأول للكلمة فالألفاظ عند تجردها عن القرائن يسبق إلى الفهم ويتبادر إلى الذهن معنى هذا المعنى هو الذي وضع اللفظ له في الأصل فعند إطلاق كلمة عين يتبادر للذهن العضو الباصر ، وعند إطلاق كلمة الأنف يقصد بها العضو الشام فإن قيل لماذا لانقول إن تعدد المعاني من باب الاشتراك اللفظي ، وليس من باب المجاز ؟ نقول هذا لا يصح ؛ لأن اللفظ يحمل على المعنى المجازي عند وجود القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، وعند عدم وجود هذه القرينة فاللفظ يحمل على المعنى الحقيقي المتبادر للفهم بخلاف الاشتراك فإنه بدون القرينة يجب التوقف ، والذين نفوا المجاز أبطلوا استدلال الجمهور ببعض الآيات كقوله تعالى ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ﴾[11] فقالوا بأن هذا على الحقيقة ونقول لهم نسبة الإرادة إلى الجدار في الآية مجازية ؛ لأن الله يقول ( فوجدا فيها جدارا ) أي أن جملة يريد أن ينقض صفة للجدار أي هذه هي الصفة التى رأى موسى عليه السلام والخضر الجدار عليها ، والإرادة لا ترى فيستحيل قطعاً أن يكون المراد بإرادة الجدار الانقضاض الإرادة الحقيقية ، وإنما المراد اقتراب الجدار من السقوط ، وعليه فهذه الآية دليل على وجود المجاز . وقال الذين نفوا المجاز يلزم من وجود المجاز الاختلال في التفاهم إذ قد تخفى القرينة ، نقول هذا على اعتباركم أنه لابد للفظ من قرينة تدل على معناه أما القائلون بالمجاز فيقولون ما يحتاج لقرينة هو المجاز فقط أما الحقيقة فتدل على معناها بلا قرينة هذه هي أهم حجج القوم رددنا عليها . فصل حد المجاز في القرآن والسنة : ليس معنى وجود المجاز في القرآن والسنة القول به مطلقاً بلا دليل فالضابط أن اللفظ إذا وجد دليل صحيح على أنه منقول عن وضعه في اللغة إلى معنى آخر وجب العمل بالمعنى المنقول إلى اللفظ و إلا فالأصل في الكلام الحقيقة ما لم يأت دليل ، فليس كل ما يستحيل عقلاً يكون مستحيلاً شرعاً ؛ لأن اللغة هي المعبرة عما يستعمله الناس في أغراضهم ، والناس عقولهم لا تدرك إلا المحسوسات ، و لا تدرك الغيبيات لذا الأمور الغيبية لا نحكم فيها عقولنا ، فما أخبر ربنا عنه نؤمن به ولا نحرفه عن معناه فقد قال تعالى : ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾[12] فالله أثبت أن الأشياء تسبحه فنقول كل الأشياء تسبح الله بما يليق بها أن تسبحه ،والله أعلم بكيفية هذا التسبيح ، ولا ننفي التسبيح عن هذه الكائنات لاستحالة إدراكنا هذا التسبيح ، ويجب ألا نتخذ إثبات المجاز في القرآن ذريعة لتأويل صفات الله كما يفعل أهل الكلام فنؤمن بما وصف الله به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه r نؤمن بمعنى الصفة ونفوض كيفية الصفة لله عز وجل فمثلاً قوله تعالى :﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾[13] الله أثبت أن له يدا نقول الله له يد تليق به ليست كيد المخلوقين ؛ لأنه قال :﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾[14]و قال تعالى : ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[15] فليس معنى اتفاق التسمية اتفاق الحقيقة هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وكتب ربيع أحمد طب عين شمس الفرقة السادسة الأحد 30 محرم 1428هـ 18/2/2007 م
[1] - انظر الفهرست لمحمد بن إسحاق النديم ص79 دار المعرفة 1398 هـ
[2] - انظر كتاب كشف الظنون لمصطفى الرومي الحنفي 2/1456 دار الكتب العلمية 1413 هـ
[3] - البقرة من الآية 16
[4] - الكهف من الآية 77
[5] - الجمل في النحو للفراهيدي ص73 حققه الدكتور فخر الدين قباوة سنة النشر 1416 هـ
[6] - الأصول في النحو لابن السراج 1/400 مؤسسة الرسالة 1408 هـ الطبعة الثالثة تحقيق الدكتور عبد الحسين الفتلي
[7] - المقتضب للمبرد 4/51 عالم الكتب بيروت تحقيق محمد عبد الخالق عظيمة
[8] - الجامع الصغير لابن الحسن الشيباني ص 142عالم الكتب بيروت 1406 هـ
[9] - غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 272 مطبعة العاني بغداد 1397 هـ تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري
[10] - البقرة : 31
[11] - الكهف من الآية 77
[12] - الإسراء من الآية 44
[13]- المائدة من الآية 64
[14] - الشورى من الآية 11
[15] - النحل من الآية 60