الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فإن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو نقض دعوى جواز مخالفة أدلة الشرع بآراء الفقهاء احتجاجاً بأن الدين يسر ،وأن اختلاف العلماء رحمة ، واختيار أيسر أقوال الفقهاء ،وإن خالف الكتاب والسنة ،وهذا عين الباطل ،وسيكون الحديث معكم فى العناصر الآتية : ماهية عمل الفقهاء ثم الحق واحد لا يتعدد ثم بطلان مقولة كل مجتهد مصيب ثم بطلان مقولة اختلاف العلماء رحمة ثم ماهية يسر الدين هدانا الله إلى الحق ووفقنا إليه . أولاً : ماهية عمل الفقهاء : أخوتاه اعلمـوا أن الفقهاء ليسوا مشرعين ، ولكنهم مظهرون لحكم الله ، لذا تجـــدهم متثبتين فيما يقولونه فهم يخبرون عن أن الله حرم كذا وأحل كذا ،ولذلك كل قول ينسبه قائل إلى الشرع فلسنا ملزمين به ما لم يأت بما يُثبت ما يقول فإن الشرع لا يثبت بأقوال الرجال ، والحــق لا يوزن بالرجال، ولكن يوزن الرجال بالحـق ، والرجال يُستدل لهم ، ولا يستدل بهم ، والحكـم الشرعي إذا نسب إلى فقيه مجتهد ، فإنه لا يعني أنه الحاكم بل هو مخبر عن حكم الله ،واجتهاده يجب أن يكون مستنداً إلى حكـم الله U من الكتاب أو السنة ؛ لذلك إن حكم بالنص القرآني أو الحديثي ، فقد حكم بحكم الله ، وإن لم يجد نصاً واجتهد ، فيجب أن يكون اجتهاده هو ما يظنه أنه حكــم الله، وليس له أن يحكــم بهواه ، أو برأيه المجرد ، أو بما يستحسنه من عند نفسه دون نظر إلى مقاصد الشرع وأهدافه وقواعد الشريعة وأحكامهـــا ، وهذا يعني في المحصلة النهائية أنه يحكم بحكم الله ، فإن أصاب فمن الله، وإن أخطأ ؛ لأنه غير معصوم فإن هذا الحكم ينسب له ،ولا ينسب إلى دين الله وتشريعه ،ولما كان العلماء المجتهدون، والقضاة، يجتهدون فيصيبون مرة ، ويخطئون أخرى كان الدين الذي تعبدنا الله به هو كلامه وكلام رسوله فقط ؛ لأن كلام الله وكـلام رسوله هو الكلام المعصوم من الخطأ .
ثانياً : الحق واحد لا يتعدد : اعلموا أخوتاه أن الحق واحد لا يتعدد ، فقد قال تعالى : ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾[1] فقد نص القرآن على أن داود وسليمان عليهما السلام قد حكما حكمين مختلفين لقوله تعالى : ﴿ يَحْكُمَانِ ﴾ لكن الذى أصاب الحق هو سليمان عليه السلام لقوله تعالى : ﴿ ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ أى أن سليمان أصاب شىء لم يصبه داود فأخطأ داود عليه السلام لعدم إصابته الحكم ؛ لذلك الحكم عند الله واحد من توصل إليه كان مصيباً ، ومن لم يتوصل إليه كان مخطئاً ، فإذا كان نبى الله داود عليه السلام قد أخطأ فكيف بغيره ؟ وقد قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾[2] فقد نهى الله عن الاختلاف فهذا يستلزم أن الحق واحد ؛ لأن الخلاف المنهى عنه منسوب إلى الدين فحصول أى خلاف فيه يدخل تحت عموم الأدلة القاضية بالنهى[3] ، وأن سائر الأقوال كلها فاسدة ، وقوله تعالى : ﴿ َوإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[4] فقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة ،وهذا يستلزم أن يكون الحق واحدا ،وهو ما وافق الكتاب والسنة ،ولو كان كل مخطىء مصيبا لما كان الأمر بالرد للكتاب والسنة والبحث عن الحق معنى ، وقوله تعالى : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[5] فالآية قد نصت على أن الأحكام قد استقرت من تحريم أو كراهة أو تخيير أو إيجاب أو استحباب ، وهذا يستلزم أن يكون الحكم فى المسألة واحدا ،وقد قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾[6] فقد أخبر الله تعالى أن الاختلاف ليس من عنده ، و ما لم يكن من عنده تعالى فهو باطل ، وهذا يستلزم أن الحق واحد ضرورة ، وقد قال r : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ،وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد »[7] فقد أبطل رسول الله r حكم الحاكم الخطأ ،ولم يبطل أجره ، ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد ، وقد سماه الرسول r مخطئا، ولا يكون مخطئاً إلا أن يخالف ما أمر به ، و قال ابن حزم : ( نص الحديث بكلامه rأن المجتهد يخطئ ، وإذا أخطأ فهذا قولنا لا قولهم ، وليس مأجوراً على خطأه ، والخطأ لا يحل الأخذ به ، ولكنه مأجور على اجتهاده الذي هو حق ؛ لأنه طلب للحق ، وليس قول القائل برأيه اجتهاداً ، وأما خطأه فليس مأجوراً عليه ، لكنه مرفوع في الإثم )[8] ، وقال الآمدى : ( ذلك صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب )[9] ، وقال الصنعانى : ( وهذا الحديث صريح فى دلالته على أن المجتهد يكون مصيباً إذا أصاب حكم الله تعالى ،وحينئذ يكون له أجران : أجر الاجتهاد ،وأجر إصابة الحق ، ويكون المجتهد مخطئاً إذا لم يصب حكم الله تعالى ،وحينئذ يكون له أجر واحد ، وهو أجر الاجتهاد)[10] ، وكان الصحابة لا يتحرجون من احتمال الخطأ ،وينسبونه إلى أنفسهم قال أبو بكر رحمه الله عليه : ( إني قد رأيت في الكلالة رأيًا فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء : أن الكلالة ما خلا الولد والوالد)[11] .
ثالثاً : بطلان مقولة كل مجتهد مصيب : أخوتاه قد تضافرت الأدلة على أن الحق واحد لا يتعدد ، وما دام الحق واحدا لا يتعدد فليس كل مجتهد مصيبا ؛ لأنه لو كان كل مجتهد مصيبا ما ذم الاختلاف ، و قد ذم الله الاختلاف فليس كل مجتهد مصيبا ، ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أمر الله عند التنازع ( الاختلاف) بالرد إلى القرآن والسنة ، وقد أمر الله عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، ولو كان كل مجتهد مصيبا لكانت الشريعة غير كاملة ، وهذا باطل ومادامت الشريعة كملت فالأحكام قد استقرت ، ولو كان كل مجتهد مصيبا لكان الشرع ليس من عند الله ، وهو باطل فمادام الشرع من عند الله فلا يوجد اختلاف ،وعليه فليس كل مجتهد مصيبا ، ولو كان كل مجتهد مصيبا ما سمى رسول الله r المجتهد بالمخطئ ، ولا يكون مخطئاً إلا أن يخالف ما أمر الله به ، وقد يورد البعض أدلة لا يستفاد منها أن كل مجتهد مصيب ، وهذه الأدلة ليست صريحة فى ذلك ، ولا يستفاد منها ذلك ، كقوله تعالى : ﴿ وَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ففَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾[12]، فقالوا قد أخبر الله أن كلا منهما أوتى حكماً وعلماً فيما حكما به ، وهذا يعنى أن كلا منهما مصيب لكن هذا الكلام ليس بصحيح فمن أين أتوا بقولهم أوتى حكماً وعلماً فيما حكم به ؟ أى أنهم قدروا محذوفاً ، وهو فيما حكما به فهذا الكلام غير موجود فى الآية ، والأصل فى الكلام عدم الحذف ، ومن قال بأن هناك كلاما محذوفا فعليه بدليل يثبت ذلك ، واستدلوا بقول النَّبِيُّ r : « لايُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ r فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ »[13] وهذا الحديث لا حجة لهم فيه فغاية ما فيه أن المجتهد المخطئ لا يعنف ، وكانت صلاة من صلى أمراً قد فات فلا وجه لتعنيفهم ، ولكن الصواب بلا شك في فعل إحدى الطائفتين،واستدلوا بحديث : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » ، وهذا الحديث ذكره الألبانى فى السلسلة الضعيفة رقم 158وقال موضوع ،ومن ناحية المعنى فإنه يخالف الآيات التى تذم الخلاف فهو ضعيف سنداً ،وباطل متناً ،ومخالف لقوله تعالى : ﴿َلقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾[14] فالاقتداء يكون بالنبى r ، وكيف يخاطب النبى r أصحابه المجتهدين ،ويقول لهم اقتدوا باجتهاد غيركم فلو كان اجتهادهم حقاً لما أمرهم بالعدول عنه؟ واستدلوا بأن الصحابة لم ينكر بعضهم على بعض فيما اختلفوا فيه ، وأنهم لم ينقض بعضهم أحكام بعض ،ولا منعوا مخالفهم من الحكم بخلافهم ، وهذا باطل فقد أنكر بعضهم على بعض فى المسائل الخلافية لا فى المسائل الاجتهادية، وقد قال ابن عباس : من شاء باهلته عند الحجر الأسود في العول في الفرائض ، وفي تخليد القاتل. وقال: أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم: قال رسول الله r وتقولون قال أبو بكر، وعمر. وهذا ابن الزبير يقول لابن عباس في متعة النساء : ( لئن فعلتها لأرجمنك فجرب إن شئت) .وقال ابن مسعود إذ سمع فتيا أبي موسى الأشعري في ابنة وابنة وابن أخت، ثم قال عن ابن مسعود إنه سيوافقني في هذا ، فقال ابن مسعود: ( لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. فجعل الفتيا بالخطأ ضلالا وخلافا للهدى) .
رابعاً : بطلان مقولة اختلاف العلماء رحمة : أخوتاه هناك مقولة شاعت باطلة المعنى ، ولا أصل لها ، وهى مقولة اختلاف العلماء رحمة ، وقد يستند قائلها إلى حديث : « اختلاف أمتي رحمة » قال الألباني فى شأن هذا الحديث : ( و لقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ، حتى قال السيوطي في\\\" الجامع الصغير \\\" : و لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ! . و هذا بعيد عندي ، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه r ، و هذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده . و نقل المناوي عن السبكي أنه قال : و ليس بمعروف عند المحدثين ، و لم أقف له على سند صحيح ، و لا ضعيف ،و لا موضوع . و أقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على \\\" تفسير البيضاوي \\\" ( ق 92 / 2 ) . ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ، فقال العلامة ابن حزم في \\\" الإحكام في أصول الأحكام \\\" ( 5 / 64 ) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث : و هذا من أفسد قول يكون ، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا ، و هذا ما لا يقوله مسلم ، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف ، و ليس إلا رحمة أو سخط . و قال في مكان آخر : باطل مكذوب )[15] ،وكيف يكون الاختلاف رحمة ،والله نهى عن الاختلاف مطلقاً ،ومن جملة الاختلاف الاختلاف فى الدين فقد قال تعالى : ﴿ َلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ِإلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾[16] لذلك الاختلاف مذموم ، وقد أخبر الله أن الاختلاف ليس من عنده ، وهذا يستلزم أن الحق واحد ،وما سواه باطل فقد قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾[17] ،وكل مجتهد مأمور بالاجتهاد ،وبإصابة الحق ،والاجتهاد فعل المجتهد ،والشرع أمر بالاجتهاد ،وليس ما أداه إليه اجتهاده ، والاجتهاد كله حق وهو طلب الحق وإرادته فإذا كان الاجتهاد مخالفا للشرع ،والمجتهد علم ذلك وجب عليه الرجوع عنه فقد قال تعالى : ﴿وَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[18] فإذا وجد العالم قوله يخالف الكتاب والسنة وجب عليه الرجوع عنه ،وهذا فعل الأئمة المجتهدين قال أبو حنيفة رحمه الله : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي )[19]وأيضاً : ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه )[20] وفي رواية : ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي )، زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) ،وقال مالك رحمه الله : ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه )[21] وقال الشافعي : ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله r ،وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله r خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله r وهو قولي )[22] وقال أيضاً : ( كل ما قلت فكان عن النبي r خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني )[23] فهذه الأقوال دالة على عدول الأئمة عن قولهم إذا خالف دليل .
خامساً : ماهية يسر الدين : أخوتاه اعلموا أن الدين يسر فهناك العديد من الآيات والأحاديث التى تدل على يسر الدين كقوله تعالى : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[24]وقال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾[25] فما أمرالله وألزم إلا بما هو سهل على النفوس فلا يأمر الله بما يثقل على النفس ، قد يعرض أحيـانًا للمكلف ما يكون تطبيق الحكم معه فيه حرجا ومشقة ، فإذا كان ذلك كذلك فإن الشريعة تخفف هذا الحكم إما بإسقاطه كله ، أو بإسـقاط بعضه ، أو بالتخيير بين فعله وتركه ، أو بإبداله بشيء أخف منه ونحو ذلك من أنواع التخفيف وذلك حتى تنتفي هذه المشقة ويرتفع ذلك الحرج فقد يسر الله هذا الدين للناس غاية التيسير ، وسهل الله تطبيق هذا الدين غاية السهولة ، فلم يضيق الله علينا فيما أمرنا به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب ، وجعل الكفارة لبعض الذنوب ، ورفع الحرج والمشقة عناوقال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾[26] وليس في الشريعة حكم يخرج عن حدود الطاقة البشرية ، قال تعالى : ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا ﴾[27] فسبحانه لا يكلفنا ما لا نطيق ،ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به ،ومن يسر الدين قصر الصلاة في السفر ،ومن يسر الدين جواز الانتقال من الطهارة المائية ( الوضوء والغسل ) إلى الطهارة الترابية ( التيمم ) إذا كان في استعمال الماء حرج ومشقة كخوف من زيادة مرض ، أو شدة بردٍ أو عدم وجود ماء ، ومن يسر الدين جواز الفطر في رمضان لمريضٍ يلحقه بترك الفطر مشقة من زيادة مرضٍ ، ومن يسر الدين جواز الصلاة قاعدًا في فرض للمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه ، أو لمداواةٍ لقول طبيب مسلم ، ومن يسر الدين جواز صلاة الجزار في ثيابه ،وربما أصابها شيء من الدم لوجود العسر عليه بكثرة إبدالها فارتفع العسر وحل اليسر إذا لم يتيقن نجاستها ، ومن يسر الدين جواز المسح على الخفين ، فلما كان خلع الخف دائمًا عند كل وضوءٍ فيه مشقة وحرج خففت الشريعة هذا وأجازت المسح على الخفين رفعًا للمشقة ، ومن يسر الدين ترك الرجل الجمعة لعذر ومن يسر الدين جواز المسح على العمامة والجبيرة لما في خلعهما من العسر والحرج ، ومن يسر الدين إسقاط المؤاخذة عن من فعل محظورًا من المحظورات كمحظورات الإحرام والمفطرات للصائم إذا كان ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا وذلك ؛ لأن الامتثال في هذه الأحوال فيه عسر ،وليس معنى أن الدين يسر أن نحلل ما حرم الله لمجرد حصول مشقة من ترك الحرام أو نسقط الواجب لمجرد حصول المشقة من الفعل فالأحكام الشرعية لا تخلو من نوع من المشقة فالجهاد فيه نوع من المشقة ، و الأمر بالمعروف فيه نوع من المشقة، و الصلاة فيها نوع من المشقة لكن هذه المشقة ليست هي الغالبة على الفعل ، و هذه المشقة التي في الفعل مقدورة للمكلَّف ، و المصلحة في هذا الفعل الذى فيه نوع من المشقة أعظم من المشقة الواقعة فيه،والله لا يقصد المشقة لذات المشقة ،وإنما مقصوده المصلحة الواقعة في الفعل،ولا تكليف بدون مشقّة ، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ... و قال ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول ،و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية )[28] ،و و قال أيضاً : ( نهى النبي r عن التشديد في الدين ، و ذلك بالزيادة على المشروع ، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، و إمَّا بالشَرْع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم ، فشُدِّدَ عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفةً لازمة لهم )[29]ونحن نقول الدين يسر ، والقول الذى يخالف أدلة الكتاب والسنة ليس من الدين فحينئذ لا يصح الاحتجاج بوجود اختلاف فى المسألة على جواز اختيار أيسر الأقوال فأيسر الأقوال إذا خالف الشرع فليس من الشرع أي ليس من الدين ،وعلى هذا فأخذ هذا القول الأيسر يحرم ؛لأنا مأمورون باتباع ما أنزل الله أي الدين الذى جعله الله لنا ،وهذا القول المخالف للشرع ليس من الشرع ، ونحن مأمورون باتباع الشرع أما الاستدلال بحديث :«مَا خُيِّرَ النَّبيُّ rبَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يكن أثماً »[30] فالحديث فيه خير ،والأمر المخير يباح فعله أو تركه أما أقوال الفقهاء فنحن لسنا مخيرين فى الأخذ بأحدها ،ولكن مأمورون باتباع القول الذى يوافق الكتاب والسنة ؛ لأن ما خالف الكتاب والسنة ليس من الدين ،وقد قال تعالى : ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[31]،وقد قد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة ،وليس باتباع القول الأيسر قال تعالى : ﴿ َوإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[32] هذا والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات . وكتب ربيع أحمد سيد طب عين شمس الفرقة السادسةالأحد31 /12/2006 م
هوامش :
[b]
[1] - الأنبياء 78- 79
[2] - الشورى من الآية 13
[3] - انظر القول السديد فى أدلة الاجتهاد والتقليد لأبى النصر القنوجى ص39 دار ابن حزم الطبعة الأولى 1421 هـ 2000 م
[4] - النساء من الآية 59
[5] - المائدة من الآية 3
[6] - النساء من الآية 82
[7] - رواه البخارى فى كتاب الاعتصام رقم 7352، ومسلم فى كتاب الأقضية رقم 1716
[8] - الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 5/648 طبع تحت إشراف الشيخ أحمد شاكر مكتبة العاصمة
[9] - الأحكام للآمدى 4/184 المكتب الإسلامى
[10] - سبل السلام للصنعانى 4/118
[11] - الأثرأخرجه البيهقي في السنن 6: 223 ، 224 ، وابن كثير والبغوي 2: 370 ، والدر المنثور 2: 250
[12] - الأنبياء 78- 79
[13] - صحيح البخارى رقم 894 باب صلاة الطالب و المطلوب
[14] - الأحزاب : 21
[15] - السلسلة الضعيفة 1 / 141 حديث رقم 57
[16] - هود من الآية 118 إلى جزء من الآية 119
[17] - النساء من الآية 82
[18] - النساء من الآية 59
[19] - ابن عابدين \\\" حاشيته على البحر الرائق \\\" 1/63
[20] - ابن عابدين في \\\" حاشيته على البحر الرائق \\\" 6/293
[21] - ابن عبد البر في الجامع 2/32
[22] - تاريخ دمشق لابن عساكر 15/1 /3
[23] - ابن عساكر فى تاريخ دمشق 15/9/2
[24] - الحج من الآية 78
[25] - البقرة :185
[26] - البقرة :185
[27] - الطلاق من الآية 7
[28] - إعلام الموقعين لابن القيم 2 / 130
[29] - إغاثة اللهفان لابن القيم 1/132
[30] - رواه البخارى كتاب الأدب 7/101
[31]- الأعراف من الآية 3
[32] - النساء من الآية 59