اللواء الدكتور صالح بن محمد المالك
كلية الملك فهد الأمنية
E-mail.:smmalek2005*************
(الأمن الفكري) يعني الحفاظ على المكونات الثقافية الأصلية في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة أو الأجنبية المشبوهة، وهو بهذا يعني حماية وتحصين الهوية الثقافية من الاختراق أو الاحتواء من الخارج. وهذا - أيضاً - يعني أن الأمن الفكري هو الحفاظ على العقل من الاحتواء الخارجي، وصيانة المؤسسات الثقافية في الداخل من الانحراف.
إن الأمن الفكري مسألة تهم المجتمع مثلما تهم الدولة، وهي قضية المحكوم كما أنها قضية الحاكم. الأمن الفكري هو إحساس المجتمع أن منظومته الفكرية ونظامه الأخلاقي، الذي يرتب العلاقات بين أفراده داخل المجتمع، ليس في موضع تهديد من فكر وافد، بإحلال لا قِبَل له بردِّه، سواء من خلال غزو فكري منظَّم، أو سياسات مفروضة.
ويحتل الأمن الفكري مكاناً مهماً بين اهتمامات المسؤولين والمواطنين في المجتمع المعاصر؛ لاتصاله المباشر بالحياة اليومية. ويشترط لتوفير الأمن الفكري أجهزة ومؤسسات متخصصة يأخذ كل منها قسطاً من المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع. ومن ضمن هذه المؤسسات والأجهزة المؤسسات التعليمية التي لها نصيب كبير في بناء فكر الإنسان وإعداده لمواجهة الحياة بكافة أصنافها وتياراتها المختلفة، خاصة في مرحلة المراهقة التي أصبح الشباب فيها في قمة الحيوية والنشاط وتدافع الأفكار وتجاذب الأطراف من خير وشر. فإذا قامت المؤسسات التعليمية والمؤسسات المجتمعية الأخرى بواجباتها الدينية والوطنية تجاه توجيه الشباب التوجيه السليم وجذبهم إلى دائرة الخير والصلاح وحب مجتمعهم ووطنهم وأمتهم وولاة أمرهم وعلمائهم، إن فعلت ذلك فقد أضافت للمجتمع عنصراً مهماً وفعالاً، وإن لم تفعل ذلك خرج على الأمة أقوام يخلُّون بأمنها فيقتلون ويسرقون ويُكفِّرونُ ويفجرون؛ لخلوِّ عقولهم من العلم الشرعي الصحيح الذي وضع كل شيء في نصابه.
وتعدُّ المؤسسات التعليمية من أهم المؤسسات الاجتماعية التي لجأت إليها المجتمعات الحديثة؛ لتلبية حاجات تربوية وتعليمية عجزت عن تأديتها الأسرة بعد تعقُّد الحياة، فأصبحت المدرسة مؤسسة اجتماعية متخصصة يلقن فيها الطلاب العلم والمعرفة ونقل الثقافة من جيل إلى جيل، كما تسعى إلى تحقيق نمو الناشئة والشباب جسمياً وعقلياً وانفعالياً واجتماعياً، بما يحقق إعداد الفرد وتنشئته التنشئة الاجتماعية ليكون مواطناً صالحاً.
ويخطئ مَن يعتقد أن مهمة المؤسسات التعليمية تقتصر على تعليم القراءة والكتابة وإعطاء مفاتيح العلوم للطلاب دون العمل على تعليم الناس ما يحتاجون إليه في حياتهم العلمية والعملية، وترجمة هذه العلوم إلى واقع يلمسه الناس. وأهم شيء يحتاجونه ولا حياة لهم بدونه هو الأمن في الأوطان، وأستطيع القول بأن الأمن هو مسؤولية الجميع، ولكنه في حق المؤسسات التعليمية أهم؛ لأن هذه المؤسسات تجمع جميع فئات المجتمع على اختلاف أعمارهم بدايةً من السن المبكرة التي تتمثل في المرحلة الابتدائية والمتوسطة، وفيها يستطيع المعلم والمربي أن يكيّف الطالب بالكيفية التي يريدها، فإذا لقي الطالب مَن يوجهه التوجيه السليم نشأ نشأة طيبة يجني ثمارها المجتمع الذي يعيش فيه، وإن كان الحاصل غير ذلك فالعكس هو النتيجة الحتمية، خاصة أن الذين يقومون على هذه المؤسسات هم خلاصة مفكِّري الأمة ومَعْقِد رأيها، وفيهم يجب أن تجتمع الصفات الحميدة المؤهلة لإدراك أهمية الأمر والشعور بالمسؤولية العظيمة الملقاة على عواتقهم، وأن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم الطلاب في جميع تصرفاتهم وأعمالهم وأقوالهم.
والتعليم القائم على أسس سليمة هو من أهم عوامل اكتمال التنشئة الاجتماعية. وقد ركَّز الدين الإسلامي على أهمية العلم، وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وذلك لأنه السبيل الأول لمعرفة علاقة الفرد بخالقه عزّ وجلّ، وكذلك علاقته بأفراد المجتمع الآخرين، والالتزام بما له من حقوق، وتأدية ما عليه من واجبات دينية ودنيوية. ونظراً لارتباط الجهل بالانحراف السلوكي، لذا وجب الاهتمام بالتعليم وسيلةً من الوسائل الوقائية للتقليل من نسبة ارتكاب الجرائم والحوادث، إلى جانب تعليمه ما له مساس مباشر بالمحافظة على حياته بشكل خاص، وحدود حرياته وحقوقه وحريات وحقوق الآخرين؛ ليرتقي بوعيه الأمني ولتنتفي جهالته، ويستطيع التعامل بموجب هذه الأسس التي تعلمها.
فالأمن الفكري هدف وغاية يحرص عليها أبناء المجتمع؛ لذا ينبغي وضع الخطط المدروسة التي تزرع الأمن الفكري في مفردات مناهجنا الدراسية. ويعدُّ الأمن الفكري أسلوباً وقائياً يجنب المجتمع تبعات الجريمة الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية؛ لإشعارهم بخطورة الجرائم والحوادث وانعكاساتها السيئة على المجتمع، وتوعيتهم بدورهم المهم في التعاون مع الأجهزة الأمنية لمحاربة الجرائم والحوادث. ومن هنا تأتي الدعوة إلى ضرورة التركيز على الأمن الفكري كإحدى ركائز الأمن الوقائي حلاً لمشكلة الجريمة والانحراف، خاصة أن نسبة لا بأس بها من المنحرفين هم من الطلاب، لذا يجب أن يحصل تفاعل بين المؤسسات التعليمية ومحيطها، بحيث يجعل منها مؤسسات مفتوحة رائدة في تعميم التربية والمعرفة، مما يسهل لها متابعة رسالتها السامية في إيجاد المواطن الصالح، بحيث يتهيأ ذهنياً ونفسياً للتوافق مع متطلبات الحياة الاجتماعية.
إن دور المؤسسات التعليمية في تضمين برامجها فصولاً عن الأمن الفكري تصب في قناة الوقاية من الانحراف الفكري عن طريق تلقين المبادئ الفكرية القويمة ومبادئ الفضيلة والأخلاق. وتعتبر العقيدة الإسلامية الركيزة الأهم في التماسك الداخلي للمجتمع.
كما أؤيد ما ذهب إليه (مصطفى بيلي) من أنه ينبغي على الجامعات الاهتمام بتدعيم انتماء هؤلاء الشباب لمجتمعهم، وارتباطهم بأهدافه وقضاياه الأساسية، من خلال التحريك الفاعل لطاقات الشباب، ومن أهمها الطاقات المعنوية التي تتمثل في القيم الدينية والثقافية التي تنعكس على سلوك الأفراد والجماعات، وفي حوافزهم ودوافعهم الإنسانية، وفي تعاملهم مع بعضهم البعض، وفي المواقف الاجتماعية والظروف المحيطة بهم.
ومن الأهمية أن يتعلم الطالب كيف يتحقق أمن المجتمع بصفة عامة، وأمنه بصفة خاصة، من خلال تهيئة نفسية واجتماعية للتكيف مع القيم والآمال وتطلعات مجتمع ينشد السلوكيات المثالية الجماعية التي تحقق الأمن والأمان. إضافة إلى أهمية دور المؤسسات التعليمية في الكشف عن المظاهر ذات المؤشر الانحرافي الفكري أو الأخلاقي منذ بدايتها، ودراستها دراسة دقيقة سواء كان فردياً أو جماعياً بالتعاون مع الإخصائي الاجتماعي، ومن ثَمَّ الاتصال بولي أمر الطالب لتنظيم التعاون مع الوسائل التعليمية قبل استفحال المشكلة، ولعلاجها قبل أن تصبح سلوكاً اعتيادياً.
وحبذا لو تم تكثيف المحاضرات اللامنهجية من خلال استقطاب رجال العلم والفكر ممن يُشهد لهم بالخير والصلاح، ويحظون بالقبول والإقناع، ودعوتهم لإلقاء محاضرات على الطلاب والمعلمين عن الأمن الفكري وأضرار الغزو الفكري القادم من الخارج والداخل؛ لحماية أفكار شبابنا من الشذوذ والانحراف الفكري الذي ستكون عواقبه وخيمة في حال إهماله لا قدَّر الله.
http://search.suhuf.net.sa/cgi-bin/s...s=1&svalue=100