(الكاتب/ دكتور زاهر زكار)
تعد ظاهرة الصفوة(النخبة) من أهم الموضوعات التي يعني بها دارسو العلوم السياسية،حيث تشكل هذه الظاهرة محور نشاطات الجماعة السياسية.وبالرغم من تباين النظريات المتعلقة بتفسير وجود هذه الظاهرة ونشأتها،فإن هناك اتفاقا على ارتباط هذه الظاهرة بتوزيع القوة داخل المجتمع الإنساني.
وقد عنيت دراسة الصفوة بشرح كثير من الظواهر والأفكار السائدة في المجتمعات،وساهمت في صياغة العديد من النظريات الاجتماعية حول تطور العلاقات داخل هذه المجتمعات،وأفادت أيضا في بعض الدراسات المقارنة من خلال متابعة تطور مفهوم الصفوة الحاكمة وتفحص وجهات النظر المختلفة لهذا المفهوم.
ويتفق معظم علماء الاجتماع والسياسة على ان دراسة الصفوة تمثل بؤرة اهتمام علم السياسة والاجتماع،ذلك أن البحث في مفهوم الصفوة يتطلب البحث في العديد من المفاهيم السياسية،مثل القوة والطبقة الحاكمة،والاوليجاركية،وهي المفاهيم التي أصبحت تمثل مكانة أساسية في كتابات علماء السياسة والاجتماع السياسي في العصر الحديث،كما ان تحليل مفهوم الصفوة إنما يعني تحليل بناء"القوة"في المجتمع،بحيث يمكن التعرف على الجماعات المهنية المسيطرة،وهل هي جماعات محافظة لا توجهها سوى مصالحها الخاصة؟أم هي جماعات متماسكة وواعية،وبإمكانها ان تسهم في تنمية المجتمع.
ومن هنا،فإن دراسة ظاهرة الصفوة تمكن من التعرف على النظم السياسية والسلوك السياسي والقوة السياسية،والأيديولوجية السياسية،ولذلك فإن بعض علماء الاجتماع والسياسة،يؤكدون على ان علم الاجتماع السياسي،هو في جوهره دراسة"الصفوات"في صلتها بالظواهر السياسية والاجتماعية الأخرى(1).
وهكذا اتخذت دراسة الصفوات مكانا بارزا في السنوات الأخيرة في أبحاث العلوم الاجتماعية والسياسية،متخذة من الإطار النظري لكل من العلماء جيتانو،موسكا،ورايت ميلز،فلفريدو باريتو،البناء الفكري لنظرية الصفوة،حيث تناول هؤلاء العلماء بالدراسة الصفوات التي كانت تسيطر على مقدرات الشعوب في عصرهم،ومن ثم شكلت الدراسات التي قام بها هؤلاء العلماء القاعدة الأساسية لمختلف الدراسات في هذا الميدان،مما أدى إلى أن تصبح دراسة الصفوات في الميدانين الاجتماعي والسياسي،أمرا لا غنى عنه في تناول مشكلات العلوم الاجتماعية والسياسية،بالإضافة إلى الكشف عن جوهر العمليات السياسية في المجتمع(2).
ومع ذلك يرى عالم الاجتماع السياسي"بوتومور"أن تعبير" الصفوة"كمصطلح،لم يستخدم استخداما واسعا في الدراسات والأبحاث الاجتماعية والسياسية إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وفي الربع الأول من القرن العشرين وخاصة في بريطانيا وأمريكا بوجه خاص،وذلك عندما انتشر هذا المصطلح وساد استخدامه في النظريات السوسيولوجية(الاجتماعية) للصفوة(3).
وتجدر الإشارة في هذا الإطار على ان الصفوة،ترتبط وظيفيا بالسلطة والقوة،فالصفوات سواء كان ذلك عند(موسكا)أو(رايت ميلز)فإنها تتكون من أشخاص أو جماعات تحتل مواقع للسلطة والقوة،وكان باريتو قد فرق بين"الصفوات الحاكمة"و"الصفوات غير الحاكمة"،وأشار أن هذه الأخيرة لا تقل عن الأخرى،فهي تتمتع"بقوة"وان كانت لا تمسك بالسلطة السياسية إلا أنها تتمتع بالقوة على مستوى عدد من القطاعات وخاصة القطاع الاقتصادي(4).وإذا كان الأشخاص والجماعات الذين بيدهم السلطة هم نواة للصفوات،فإن تعريف الصفوة انطلاقا من الفئة التي تسير دفة الحكم،يؤدي إلى تجاهل القسم الآخر من هذه الصفوات،وهي صفوات تلعب دورا مهما في التأثير على المجتمع،دون أن تكون صفوات حاكمة بصورة رسمية أو مباشرة.
تعريف مفهوم" الصفوة":
تختلف وتتباين وجهات النظر حول تعريف مفهوم" الصفوة"،فهناك تعريف واسع لظاهرة الصفوة أو النخبة،لا يرتبط بالضرورة بفكرة الضبط والسيطرة السياسية،ويمكن تعريف هذا المفهوم على النحو التالي: الصفوة هي"جماعة من الأفراد معروفة اجتماعيا أو سياسيا لها خصائص وسمات ذات قيمة معينة،كالقدرة العقلية أو الوضع الإداري المرموق،أو القوة العسكرية،وهي خصائص ترتبط بدرجة عالية من الهيمنة والنفوذ"(5).وتبعا لهذا التحديد لمفهوم" الصفوة"فإن الصفوة كجماعة،قد تتماسك وقد تكون موضع تقليد العامة دون أن يكون لذلك اثر واضح في توجيه السلوك بطريقة سياسية مباشرة.كما أورد قاموس علم الاجتماع تعريفا لمفهوم" الصفوة"مفاده:أن الصفوة هي"جماعة صغيرة في مجتمع ما،وفي ظرف معين تحمل الاسم نظرا لأنها تتمتع بأهمية تعطيها لنفسها أو يعطيها لها الآخرون"(6).
وفي هذا الإطار يمكن التحدث عن الصفوة السياسية أو الصفوة المثقفة،أو صفوة المؤسسة التعليمية،وبالتالي يمكن تصنيف المجتمعات الحديثة حسب تعدد الصفوات فيها(نتيجة لتعقد المجتمعات الحديثة)والدور الذي تؤديه الصفوات ذات السلطة في اتخاذ القرار.
كما قدمت تعريفا عديدة لمفهوم" الصفوة"على أساس أنها"الأقلية"داخل أي تجمع اجتماعي مثل المجتمع والدولة والحزب السياسي،وعلى أية جماعة تمارس نفوذا متفوقا داخل المجتمع،ف الصفوة التي تمارس نفوذا متفوقا على المجتمع تسمى" الصفوة الحاكمة" وقد تأخذ هذه الفئة تسميات متعددة داخل المجتمع مثل
"صفوة القوة السياسية"أو"الطبقة الحاكمة"أو"المؤسسة أو الهيئة الحاكمة"كما هو الحال في المجتمع الإنجليزي،وهي تظهر بالضرورة بالغة التعقيد في المجتمعات الصناعية(7).
وتشير كلمة" الصفوة"إلى الأقلية أو القيادات في مختلف الميادين سواء في الميدان الثقافي(مثلا الصفوة الثقافية عند كارل ماتهايم)أو الميدان الاقتصادي أو العسكري،وهي تلك الجماعات التي تتخذ القرارات في تلك المجالات(8).
كما قدم في هذا الإطار أيضا،المفكر الفرنسي"جي روشيه"تعريفا لمفهوم الصفوة،اعتمادا على التحليلات الكثيرة التي قدمها مشاهير كبار الصفويين،حيث يرى أن الصفوة"تضم أشخاصا وجماعات يستطيعون بواسطة التأثير الذي يمارسونه،أن يشاركوا في صياغة تاريخ جماعة ما،سواء كان ذلك عن طريق اتخاذ القرارات أو بالأفكار والاحساسات والمشاعر التي يبدونها أو التي يتخذونها شعارا لهم"(9).
وتقضي التعريفات المختلفة لمفهوم الصفوة والتعديلات التي طرأت عليها،ضرورة استخدام مصطلحات أكثر دقة من تلك التي استخدمت حتى الآن،فمصطلح"صفوة"أو"صفوات"ي ستخدم اليوم بشكل عام للإشارة إلى الجماعات الوظيفية(المهيمنة)بالأساس التي تتمتع بمكانة اجتماعية عالية في المجتمع،بغض النظر عن دوافع ذلك.
ولا شك أن دراسة الصفوات بهذا المعنى لها إيجابياتها من نواحي عديدة من أهمها،حجم الصفوات وأعدادها،وعلاقاتها فيما بينها،ثم علاقتها بالجماعات التي تسلمها مقاليد القوة السياسية، وهذه الجوانب تعتبر ذات أهمية علمية في دراسة التغييرات التي تمس مختلف شرائح البناء الاجتماعي بالإضافة إلى ذلك مسألة انغلاق أو انفتاح الصفوات التي تعتبر بالغة الأهمية أو بمعنى أدق طبيعة الدخول إلى الصفوة ومدى عملية الحراك الاجتماعي المتاحة فيها.
وفي هذا الاتجاه،قدم كل من موسكا ،وباريتو،وميلز،بعض المحددات للصفوة،حيث يرى العالم الإيطالي جيتانو موسكا،أن الصفوة تتكون من"أقلية الأشخاص الذين يمسكون بالسلطة في المجتمع،وتتمثل هذه القلية في طبقة اجتماعية حاكمة أو مسيطرة،تسمح لها قوتها باعتلاء السلطة وهذا بفضل تنظيمها وطبيعة بنائها،فأعضاء الصفوة المسيطرة تربط بينهم علاقات قرابة أو مصلحة أو ثقافة وغيرها مما يضمن للصفوة وحدة التفكير والالتحام في جماعات كطبقة مميزة"(10).
وبالإضافة إلى الامتيازات الاقتصادية التي تتمتع بها الصفوة،فإنها تقوم بواسطة وحدتها وقوة سلطتها السياسية بالتأثير الثقافي على الأغلبية غير المنظمة،وهذا هو الذي يؤدي الى تفسير الدور التاريخي الذي تلعبه الصفوة في عملية التغير الثقافي.
وإذا كانت الصفوةمتجانسة بصورة عامة،فهي من جهة أخرى،متدرجة او طبقية وخاصة انه يلاحظ أحيانا "نواة مسيرة" تتكون من عدد قليل من الأشخاص الذين يتمتعون بأكبر قدر من السلطة بالنسبة لغيرهم،مع العلم ان هذه"النواة المسيرة"تلعب دور الزعامة داخل الصفوة نفسها،وهذا يمثل في حد ذاته"صفوة ممتازة"أو"صفوة عليا"داخل الصفوة.
ولا شك بأن هذا النوع من الزعامة،يعطي للصفوة قوة اكبر أو كفاءة أعلى،وهكذا يخلص "موسكا" في تحديده لمفهوم الصفوة إلى نتيجة مفادها:انه يمكن بناء تفسير كامل لتاريخ انطلاقا من تحليل الصفوة المسيرة(أي القيادية)فالتاريخ-كما يبدو لهذا المفكر-يتسم بالنشاط والحيوية،أثناء تحقيق الصفوة التي بيدها السلطة لمصالحها ونشرها لأفكارها(11).
أما المفكر تلفريدو باريتو،الذي يعتبر أول من أدخل مفهوم الصفوة في الدراسات الاجتماعية،فإنه يرى أن الصفوة"تتكون من جميع الأشخاص الذين يظهرون نوعا من الاستعدادات العالية في ميدانهم أو في أنشطة أخرى،بمعنى أن لهم صفات خاصة،كما يدخل في نطاق الصفوة كل من بواسطة مواهبه الطبيعية يحقق نجاحا بارزا بالنسبة لبقية الناس"(12).وبذلك يقدم "باريتو" مفهوما للصفوة يقترب من المفهوم العادي الذي يضفي على الصفوة قيمة نوعية،فالصفوة بالنسبة إليه تتكون من أعضاء متفوقين في المجتمع لهم صفات رفيعة تمنحهم القوة والسلطة.
وحسب هذه الرؤية السابقة للصفوة،يصبح من الضروري دراسة نظرية"دورة الصفوة" لباريتو، فوفقا لهذه النظرية،ليس بالضرورة أن يكون الانتماء إلى الصفوة بالوراثة،،وذلك لأن الأبناء ليسوا نسخا مطابقة لآبائهم في صفاتهم الرفيعة،ولهذا وبدون انقطاع،تحل صفوة جديدة محل الصفوة القديمة،وتأتي من الطبقات الدنيا من المجتمع،وهذا هو الذي يضفي التوازن في النسق الاجتماعي،فهذه الحركة المستمرة للصفوات الصاعدة تساهم في عملية التغيير الاجتماعي لأنها أساسا تعمل على نشر الأفكار.
وتتمثل رؤية"باريتو"عن المجتمع في أنه يعتبره"صفوي غير أرستقراطي"فهو حسب مفهوم أو نظرية"دورة الصفوة"يطرح تساؤلا عن"السلطة الوراثية".فضلا عن انه يعتقد بأن القوة والسلطة لا تنتقل دائما،وبصورة مستمرة إلى الأشخاص من ذوي الصفات المتمايزة،فدورة الصفوات- كما يرى هذا المفكر- تمثل"واقعة"يمكن ملاحظتها،وهي لازمة للمجتمع حتى يتمكن من القيام بوظائفه بشكل عادي.
أما رؤية العالم الأمريكي"رايت ميلز"للصفوة،فهي تتطابق مع رؤية"موسكا"مع الاختلاف في بعض النقاط المهمة،فعلى الخصوص نجد أن "ميلز"قد نظر إلى الصفوة"كحقيقة"أكثر تعقيدا وتنوعا مما يراها"موسكا"وتحدث عن الصفوة كما لو كانت"طبقة اجتماعية"وقد يرجع ذلك إلى نظرته المسبقة للحقيقة،الأمر الذي أدى به إلى الخلط بين ظاهرتين مميزتين:الظاهرة الاجتماعية والصفوات،اذ يمكن تمييز صفوات الطبقة مثل:صفوة الطبقة العاملة،أو صفوة الطبقة المثقفة،أو صفوة الطبقة الريفية....الخ،وهذا ما أضفى غموضا عند التحدث عن"طبقة الصفوة"والملاحظ في هذا الإطار،بأن"ميلز"قد استلهم من"موسكا"إمكانية الدراسة الامبريقية لصفوة القوة في الولايات المتحدة الأمريكية بصورة خاصة،فهو على عكس ما يرى"موسكا"من أن طبقة الصفوة تشكل طبقة اجتماعية،فإن الصفوة عند"ميلز"تتجمع لكي تشكل وحدة للقوة لحكم المجتمع"،أما الصلات أو العلاقات التي تربط الصفوات فيما بينها فهي مختلفة،ويمكن أن تتجسد في مجموعة من المصالح بين عدد من الجماعات الكبرى أو بين مؤسسات كبرى،أو في وجود مصالح مالية بين حكومة معينة وهيئات رأسمالية كبرى،وهذا ما يفسر الحماية السياسية والعسكرية التي تمنحها البلدان الاستعمارية للمؤسسات الرأسمالية في المستعمرات أو البلدان النامية.
كما توجد بين الصفوات علاقات سيكولوجية تتسم بالخصوصية،كالتشابه في الأفكار والعقليات، وفي الأصول الاجتماعية المشتركة ومصادر التعليم المتشابهة،وعلاقات المودة والقرابة والزواج وتبادل المجاملات،ولا شك ان مثل هذه العلاقات تدعم المصالح المشتركة بين الصفوات.
والخلاصة أن ميلز،قد ساهم في دراسة الصفوات في ثلاث قضايا،الأولى انه تمكن من تحليل مفهوم الصفوة ومفهوم الطبقة الاجتماعية،مما سمح بفتح ميدان البحث في"علم اجتماع القوة"ومن ثم دفع البحوث التجريبية للصفوات إلى الأمام،والثانية انه يعتبر"ميلز"من العلماء الأوائل الذين مهدوا لعلم الاجتماع القوة،بالإضافة إلى علم اجتماع الصفوات،والقضية الثالثة،انه كان له الفضل في دفع عدد لا بأس به من البحوث اللاحقة عن الصفوات،وعن توزيع القوة بين الصفوات،ومن بين هذه البحوث-على سبيل المثال-بحث العالم الكندي"جون يورتر"الذي عالج فيه مميزات الصفوات والعلاقات التي تربط بينها،سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو مهنية أو نقابية في كندا(13).
مفهوم القـوة:
تعتبر القوة بنماذجها المختلفة أحد المحاورة الرئيسية في حركة المجتمعات والأنظمة السياسية،وتعد عملية تحليل علاقات القوى من أكثر القضايا المثارة في هذه الأيام،حيث أصبح يلجا لمفهوم القوة في تحليل التطورات التي تصيب الدول،ومحاولة تفسير التاريخ على أساس تبدل القوى المسيطرة في مراحله المختلفة.واعترف بمنهج القوة كأحد مناهج البحث السياسي المهمة،بالرغم من العقبات والتعقيدات التي تعترض هذا المنهج،واعتمد هذا المنهج لتحليل نشاطات السلطة والقيادة،وتحديد من المستفيد او الخاسر من هذه النشاطات،وتحديد مكمن القوة الحقيقية الذي يحرك السلطة،والأشخاص الذين يشكلون الدافع لمثل هذه النشاطات،وتدرس القوة السياسية في الوقت الحاضر كقيمة او كفكرة على أساس أنها تمثل نموذجا خاصا أو شكلا مميزا من أشكال القوة،مع التسليم بالرابطة المثبتة بين فكرة القوة والقوة السياسية(*) وينظر إلى القوة السياسية على أنها نموذج معقد يفترض وجود أنواع أخرى من القوة،ولكنه في الوقت نفسه يختلف عن صفات ومميزات هذه القوى وتعد القوة السياسية أكثر شيوعا من بقية أنواع القوى(14).
تطور مفهوم القوة:
لقد بدأت دراسة علاقات القوة في المجتمعات والنظام السياسي منذ القديم،حيث جرت محاولات تاريخية عديدة لتفسير السياسة من خلال تحليل علاقات القوة داخل المجتمعات المختلفة،فآراء أفلاطون حول العدالة تشمل الكثير من الإشارات المبكرة لمفهوم القوة وتحليلات أرسطو للدساتير اليونانية دار في جزء كبير منها حول مفهوم القوة ومن يملكونها،وإذا كان الفكر اليوناني بشكل عام قد اهتم بمفهوم القوة،ولو من الناحية الفلسفية،فإن الفكر الروماني قد تناول مفهوم القوة وعلاقات القوة بالتقنين والتشريع على المستوى الفردي والجماعي،فقد درس بوليبوس وشيشرون مفهوم القوة واعتبرا القوة الأساس لقيام الإمبراطورية الرومانية،وان القوة تمثل ركيزة أساسية لفكرة العدل والحق،وفي العصور الوسطى ارتبط مفهوم القوة بالقوة الدينية سواء بالكنيسة في الغرب،أو السلطة الدينية في الشرق-إلى بداية عصر النهضة والتي شهدت كتابات كل من ميكافللي وبودان،حيث تشكل القوة المحور الأساسي في آراء ميكافللي السياسية،فهو يرى بأن القوة هي الأساس لقيام الدول وإخضاع الآخرين والمتمردين،أما بودان فقد نظر للقوة نظرة فلسفية،وحاول الربط بين مفهوم القوة السياسية وفكرة السيادة والمشروعية،ومن بعدهما جاءت مجموعة من المفكرين مثل هوبز ولوك ومونتسيكو الذين تأثروا بكتابات من سبقوهم عن مفهوم القوة،ولجأوا إلى مفهوم القوة في تحليلاتهم التاريخية.

تعريف مفهوم القـوة:
تعددت تعريفات مفهوم القوة تبعا لوجهة نظر صاحبها وفهمه ولطبيعة علاقات القوة،فقد عرف "ماكس فيبر"القوة بأنها"القدرة التي يمتلكها الفرد في ضوء العلاقات الاجتماعية،والتي تجعله في حالة يستطيع معها أن يحقق رغباته بغض النظر عن مقاومة الآخرين أو رفضهم"(15).
أما هارولد لاسويل،فإن مفهوم القوة عنده يعني"قدرة شخص او مجموعة من الأشخاص على التحكم في سلوك الآخرين بالطريقة والحالة التي يريد ويستطيع من خلالها تكييف سلوك الآخرين كما يشاء"(16).كما يعني مفهوم عند رايت ميلز"امتلاك القدرة على صنع القرار رغم معارضة الآخرين،وان القوة تمثل القدرة على الإجبار والإكراه الموجود لدى كافة قطاعات المجتمع"(17).
ومن خلال العرض السابق لتعريفات القوة،يلاحظ بأن معظم هذه التعريفات قامت على ربط مفهوم القوة بالقدرة Copacity على التأثير في سلوك الآخرين دون التعرض لتأثيرهم والقدرة على جعلهم يطيعون أو يحققون أهداف مالك القوة،ولكن النظرية العلمية الحديثة لطبيعة القوة تفرض الأخذ بمفهوم القوة على انه نوع من التأثير المتبادل بين المؤثر والخاضع للتأثير في عملية توازن القوى.
جوهر الصفوة:
إذا كانت الصفوة موجودة في كل المجتمعات،من حيث أنها أقلية من الشعب،بيدها اتخاذ القرارات المؤثرة على الحياة في المجتمع،ونظرا لقوة فاعلية هذه القرارات واتساع مجالها،فإنها تؤثر على المظاهر العامة للمجتمع أيضا،وخاصة في مجال القرارات السياسية،حتى وان كان أفرادها من غير السياسيين المحترفين،وبناء على ذلك،فإن رؤية المفكر"موسكا" في أن الصفوة تمثل طبقة اجتماعية تتضمن دائرة أوسع من هؤلاء الذين يقررون السياسة بصورة رسمية.
وتصل الأقلية إلى موقع السلطة-حسب وجهة النظر الكلاسيكية-بواسطة الانتخاب العادي،أو قد تحصل هذه الصفوة على"القوة"نتيجة للثورة على سيطرة الجماعة التي سبقتها، أو تصل الو مواقع القوة باحتكارها لموارد الإنتاج في المجتمع(18).
وفي المجتمعات الحديثة،فإن الأقلية(الصفوة) المسيطرة تضم على الأقل،بعض هؤلاء المختارين لمواقع القيادة عن طريق الانتخاب،غير ان الصفويين يرون أن الكسب الانتخابي في هذه الحالة لا يتم وفقا للطرق الديمقراطية،ذلك أن ظهور سيطرة الأغلبية-حسب وجهة نظرهم-على الأقلية،ما هو إلا مظهر خادع،حيث تسمح مواقع الأقلية للأغلبية بالمناورة عن طريق استخدام الدعاية لاختيار المرشحين،بحيث تكون نتيجة الاختيار في النهاية لصالح غالبية مرشحي الصفوة.وسواء أكانت إحدى الحالتين ففي النهاية بامكان الصفوة،بما لها من تنظيم وتماسك أن تخطف من الأغلبية سيطرتها،ولا يتوقف الأمر عند الصفويين عند هذا الحد،وغنما يرون ان الأقلية لا تتخذ القرارات وحسب،ولكن لديها من الأساليب مما يجعل الأغلبية تذعن لها وتطيعها،وهذه الظاهرة يكاد يكون التسليم بها عاما في دراسة العلاقات السياسية.
ويرى"ميشلز"بأن ضبط سيطرة الأقلية بواسطة الأغلبية أمر يصعب تحقيقه،فقد سخر التطور التاريخي من جميع المقاييس التي كيفت للحيلولة دون الاوليجاركية أو لمنعها،وإذا سنت القوانين للحد من سيطرة القادة،فإن القوانين هي التي تتجه نحو الضعف تدريجيا وليس القادة،فالجماهير عادة ما تفتقد النظام التي يمكنها من محاسبة القادة،فضلا عن افتقادها للقوة الحقيقية،التي تستطيع ان تحافظ بها على مبدأ سيادة الأغلبية الذي يحوول دون فرض الصفوة سيطرتها على بقية شرائح المجتمع(19).
وفي الإطار ذاته،يميز بعض المفكرين مثل بارينو،وموسكا،ميشلز،بين مستويين داخل الصفوة نفسها برغم اختلافهم في التمييز بين المستويات العليا والمستويات الدنيا للصفوة،وتكمن أهمية هذا التمييز او التفريق،في أنهم قدموا من خلاله محاولة تأخذ في الاعتبار تلك الاختلافات من حيث درجة ونمط النفوذ الذي يكون لكل عضو من أعضاء الصفوة،فقد تكون الشريحة الدنيا من الصفوة-في بعض الحالات-معبرا بين متخذي القرار وبقية شرائح المجتمع،فهي الوسط بين الحكام والمحكومين،حيث تقوم بتوصيل المعلومات،فضلا عن عملية التفسير والإقناع بسياسة الصفوة،بل إنها في كثير من الحالات،تكون مصدرا لتزويد الصفوة العليا بأعضاء كلما تطلب الأمر ذلك،وفي هذا الاتجاه يقدم المفكر"موسكا"مثال على هذه العملية حيث يرى بأنه"في الغالب تقف وراء الشريحة العليا من الطبقة الحاكمة،شريحة أخرى أكثر عددا تتمتع بجميع القدرات والإمكانيات للقيادة في الدولة،والتي بدونها يستحيل قيام أي نوع من التنظيم الاجتماعي"(20).
ولا تقوم الشريحة العليا من الصفوة،بالدور الأساسي بصفتها صاحبة القرار،وذلك نظرا لعدم الكفاية في القوة والعدد،فتباين وظائف القيادة من الأهمية بمكان داخل المجتمع،فمثلا نجد ان القادة يقومون بمناقشة التشريعات والقرارات،وشرحها وتوضيحها لبقية شرائح المجتمع في حين يؤدي بعضهم الآخر دورا محددا مرسوما لهم،ويمثل هؤلاء في الغالب الشريحة الدنيا من الطبقة الحاكمة.
وفي داخل هذه الشريحة تتكون اللجان التي توجه التجمعات السياسية والخطباء المهرة ومديرو الاجتماعات،وكتاب الصحافة البارزون ،وهؤلاء يتمتعون بقدرة فائقة في تشكيل الأفكار وصياغتها وطرحها على الناس،ومن ثم فهم يمارسون نفوذا لا يستهان به على الأغلبية او الأكثرية التي ليس في مقدورها صياغة الاراء وبلورتها لصالح أفرادها،بل تتبع آراء الآخرين بدون معرفتها،ويقع تنفيذ قرارات الشريحة العليا من الصفوة أو الطبقة الحاكمة في أيدي البيروقراطيين وهم الذين يجندون-كما يرى موسكا- من الشريحة الدنيا من الطبقة الحاكمة.
أما الشريحة التالية(أي الطبقة الوسطى-حسب رؤية موسكا-) فتمثل مصدر إمداد الشريحة العليا بالأعضاء الجدد،ومن ثم فإن تماسك المجتمع،إنما يعتمد على الشريحة الدنيا من الصفوة التي تقدم عناصر القيادة للمجتمع،فضلا عن أنها تمثل همزة الوصل الأساسية بالقيادة.
أما المفكر"رايت ميلز"فقد ميز بين ما يسميه بـ"قلب الصفوة الداخلي" وبين الهوامش الخارجية لصفوة القوة، وباستثناء-ميلز-دون سائر العلماء الكلاسيكيين،نجد أنهم قد اتفقوا على أن فكرة الصفوة الحاكمة كانت ولا تزال سائدة في جميع المجتمعات،في حين أن ميلز،قام بتسجيل ملاحظاته حول مجتمع واحد هو المجتمع الأمريكي،وخلال عهد واحد،وقرر بشكل قاطع أن المجتمعات الأخرى،وفي عهود أخرى قد يختلف فيها بناء القوة.
أما بالنسبة للمفكرين باريتو وموسكا،فقد قررا أن الوجود الضروري للصفوة الحاكمة،كان احد القوانين الأساسية قبل اكتشاف العلوم الاجتماعية،ولا يزال الناس يتحركون من اجل مصالح وأهداف،وكان ذلك في الماضي كما في الحاضر،ومن ثم فإن نماذج السلوك السياسي والاجتماعي هي في الأصل مكررة ومعادة،وما السجلات التاريخية إلا مخزن للخبرة والتجارب السياسية.
دورة الصفوة للوصول إلى مواقع القوى :
يؤدي الصراع والتفاعل داخل الصفوة نفسها إلى وجود حركة مستمرة بين مواقع القوى والصفوة، وفي مقابل ذلك هناك حركة مستمرة للعبور بين الصفوة و المجتمع حيث تنهار صفوات لتحل محلها أخرى ،وتشكل الصفوة غالبا قنطرة العبور لموقع القوى من فئات المجتمع المختلفة.
وتبقى عملية الدخول للصفوة والخروج منها مستمرة حتى في أكثر حالات الصفوة استقراراً،فإذا ما كانت الصفوة منفتحة وسمحت للمواهب والكفاءات من خارجها بالانخراط في سلكها فسوف تتمتع بنوع من الاستقرار والثبات وان توقف عملية العبور بين الصفوة والمجتمع سيؤدي
-بلاشك- إلى العنف السياسي والثورة والانهيار السياسي للصفوة القائمة نتيجة عدم قدرتها على استيعاب القوى الناشئة في المجتمع.
وتتحدد دورة الصفوة بصورة عامة بمستويين أساسيين هما(21):
1ـ دراسة الدورة والتغيير بين مواقع القوة و الصفوة،والتي تحدث نتيجة دورة وتغيرات جماعات الصفوة نفسها.
2ـ الدورة التي تحصل بين الصفوة وبقية أفراد المجتمع والتي تأخذ بعدين أساسيين:
أ ـ صراع أفراد الصفوة مع أشخاص من المستويات الدنيا،حيث يفقد أفراد من الصفوة القوة ويخرجون من الصفوة،وينجح أفراد من المستويات الدنيا،في الانضمام إلى الصفوة القائمة.
ب ـ صراع الصفوة مع صفوات منافسة،حيث يشكل أفراد من مستويات دنيا صفوات جديدة تصارع الصفوة القائمة.

وأخيرا لا بد أن نشير إلى أن دورة مواقع القوى،هي نوع من التغيرات التي تحدث داخل الصفوة نفسها في الغالب،والتي تؤدي إلى صعود أو هبوط بعض أفراد الصفوة من وإلى مواقع القوة،ولذلك تترابط دراسة العوامل المؤثرة على وصول القوة لمواقعهم في السلطة مع العوامل المؤثرة على دور الصفوة،تتوازى معها أحيانا وتتباين معها في أحيان أخرى.
الاتجاهات الرئيسية في التفكير الصفوي:
يتميز الفكر النظري الصفوي بأربعة اتجاهات رئيسية سنناقشها فيما يلي:
1ـ الاتجاه التنظيمي:
يمثل هذا الاتجاه المفكران موسكا،وميشلز،وهو الاتجاه الذي يقوم على رؤية أساسية مؤداها،أن الصفوة تمتلك مقاليد القوة،وذلك بما لها من قدرات تنظيمية،وبراعة في تقدير مصادر القوة في المجتمع،فموسكا(مثلا)يرى أن الضبط الذي تمارسه الصفوة،يعتمد على كونها"قلة متماسكة" تشكل جبهة قوية قادرة على تحدي المعارضة،وبمعنى أدق،أن الصفوة تشكل جماعة محدودة العدد ولكنها تتمتع بقدرات تنظيمية لا توجد عند الجماعة الكثيرة العدد.
كما يرى(موسكا) أو وسائل الاتصال بين أفراد الصفوة بسيطة،وان فرص الاتصال فيما بينهم سهلة أيضا،وأفضل بكثير مما هو الحال في الجماعة الكثيرة العدد،الأمر الذي يؤدي بالصفوة إلى صياغة سياساتها بشكل أسرع،كما أنها قادرة على إحداث تماسك داخلي إذا ما طرأ أي تهديد خارجي لها،بالإضافة إلى سرعتها للاستجابة للمتغيرات التي تحيط بها.
أما المفكر روبرت ميشلز،فقد بلور في كتابه(الأحزاب السياسية)رؤية موسكا في هذا الاتجاه،حيث يرى أن الصفوة بما تمارسه من سيطرة،فهو يتوقف إلى حد كبير على طابعها التنظيمي،ولذلك قام بدراسة بعض الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية في أوروبا في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى،ثم صاغ على ضوء ذلك قانونه الشهير"القانون الحديدي للاوليجاركية"(22).
وركز"ميشلز"كل اهتمامه على دراسة أفكار الحزب الاشتراكي الألماني(آنذاك)،الذي كان يعد من أكثر الأحزاب الأوروبية الآخذة بالمبادئ الديمقراطية في ذلك الوقت،حيث توصل إلى نتيجة مؤداها،أن هذا الحزب يحكم بنائه كحزب أوليجاركي،تسيطر عليه أقلية صغيرة من حيث العدد،وبناءا على هذا توصل الى استنتاج مفاده،ان جميع التنظيمات كبيرة الحجم تشهد نموا كبيرا في جهازها الإداري،مما يعمل على تقليص الديمقراطية داخل الحزب،وذلك بالرغم من أن مثل هذه التنظيمات الحزبية كانت تتبنى أيديولوجيات تقوم على المساواة وتكافؤ الفرص والديمقراطية.
وناقش ميشلز،العلاقة بين الصفوة والجماهير،وخلص انه عندما يتقلد القادة مراكز القوة يصبحون جزءا مكملا للصفوة،وبذلك تصبح مصالحهم متعارضة مع مصالح الجماهير،لأنهم(في هذه الحالة) يعملون على تدعيم أوضاعهم،ولو كان ذلك على حساب التنظيم،ويدفعهم إلى ذلك تأثرهم بالضغوط البنائية،بالإضافة إلى السمات النفسية العامة التي تدفعهم الى ذلك،وعليه فإن القائد الذي بيده السلطة وتعود على ممارستها،يجد صعوبة في التنازل او التخلي عنها،مع العلم أن ممارسة القوة في حد ذاتها تحدث تحولا نفسيا في شخصية القائد فيعتد بنفسه،ويبالغ في عظمته،ثم يلجا في النهاية إلى ادعائه بأنه صاحب الفضل في هذا التنظيم(23).
ويرى ميشلز أيضا، بأن الأقليات الحاكمة تسعى باستمرار إلى إسهام الجماهير بضرورة تحقيق الوحدة الداخلية والاستقرار لكي يتمكن المجتمع من مواجهة الأخطار الخارجية،ولهذا فإن الأقلية الحاكمة تنظر إلى أية معارضة على أنها تخريبية تعمل لصالح الأعداء.
2ـ الاتجاه السيكولوجي:
يمثل هذا الاتجاه المفكر الإيطالي فلفريدو باريتو،الذي يرجع قوة الصفوة إلى خصائصها السيكولوجية،فقد قام باريتو،بتحليل شامل للصفوة،حيث أعطى للصفوة مفهوما يقترب من مفهوم "الطبقة الحاكمة"عمد"ماركس"وذلك أن نظرية الصفوة تعد جزءا أساسيا من علم اجتماع جديد، عمل على إعداده مستندا في ذلك إلى أبعاد سيكولوجية خالصة.
فالصفوة(حسب رؤيته)،ليست نتاجا لقوى اقتصادية-كما يرى ماركس-كما أنها لا تعتمد في قوتها على قدراتها التنظيمية-كما يرى موسكا وميشلز- وإنما هي نتاج الخصائص الإنسانية الثابتة عبر التاريخ.
3ـ الاتجاه الاقتصادي:
ويمثل هذا الاتجاه المفكر الأمريكي(جيمس برنهام)الذي نظر إلى الصفوة من زاوية اختلفت عن نظرة كل من موسكا وباريتو وميشلز،الذين رفضوا النظرية الماركسية في"الطبقة الحاكمة"،فإذا كان الماركسيون قد رفضوا نظرية الصفوة لأنها تعبر عن أيديولوجية برجوازية،فإن المفكر "برنهام"قد حاول المزاوجة بين الاتجاهين،حيث أشار في كتابه الذي صدر في عام1941 تحت عنوان(عهد المنظمين) إلى أن النظام الرأسمالي يتدهور باستمرار،وأنه يتحول بالتدريج الى مجتمع تسيطر عليه صفوة إدارية تتولى شؤونه الاقتصادية والسياسية،فهو يرى أن كل طبقة حاكمة،وليس بالضرورة ان تكون منسجمة،تتميز بتسلطها على جماعة من الناس(24).
واستعان"برنهام"بكتابات علماء الصفوة،وصاغ فروضه الأساسية والتي أهمها"أن السياسية ما هي إلا كفاح وصراع بين الجماعات من اجل الحصول على القوة،وان الجماعة الصغيرة في كل المجتمعات هي تلك الجماعة التي تتولى اتخاذ القرارات الأساسية"وفضلا عن ذلك،فقد استعان (برنهام) بكتابات علماء الصفوة الكلاسيكيين في تحليل وتفسير سير التغير الاجتماعي،وذلك على أساس أن مصدر هذا التغير يكمن في بناء الصفوة ذاتها،او استبدالها بصفوة أخرى.
وهكذا يتضح جليا مدى تأثر المفكر"برنهام"بالنظرية الماركسية في فهمه وتفسيره للأسس أو المبادئ التي تستند إليها الصفوة،ذلك أن تحكمها في وسائل الإنتاج،هو الذي يمنحها إمكانية السيطرة في أي مجتمع،وحول ذلك كتب برنهام ما يلي:"إذا أردنا أن نحدد الطبقة الحاكمة،فعلينا أن نبحث عن الطبقة التي تحصل على أعلى الدخول المادية"(25).
4ـ الاتجاه التنظيمي:
ويمثل هذا الاتجاه المفكر"رايت ميلز"الذي يرى أن قوة الصفوة تكمن في الأوضاع النظامية الرئيسية التي يمثلها أعضاؤها في المجتمع،ويتفق ميلز وبرنهام،في أن مكانة الصفوة وبناءها،لا يتوقف على مواهب الأفراد وخصائصهم النفسية،وإنما تتحدد في ضوء طبيعة البناء الاجتماعي والاقتصادي لمجتمع معين.
وإذا كان برنهام قد توصل،على أن القوة في المجتمع تؤدي الى ظهور تحكم وسائل الإنتاج ،فإن"ميلر"قد وجد ان هذه القوة تؤدي إلى ظهور منظمات كبيرة الحجم،كالمؤسسات العسكرية والهيئات السياسية والشركات الكبرى،وان الصفوة هي نتاج للطابع النظامي الذي يسيطر على المجتمع الحديث أو المعاصر،وان القوة تميل إلى اتخاذ طابع نظامي عام،مما يؤدي إلى ظهور منظمات تحتل أهمية محورية في المجتمع،وتشكل في الوقت نفسه الأوضاع القيادية في البناء الاجتماعي،ويشكل قادة المنظمات المختلفة"صفوة القوة"على مستوى قومي،بحيث تنشأ بينهم صلات وروابط وثيقة،تكون في أوج قوتها،حينما يتبادل الأفراد فيما بينهم الوظائف العليا الممثلة لقطاعات المجتمع المختلفة(26).
تصنيف الصفوة:
يصنف علماء الاجتماع والسياسة الصفوة إلى عدة أنواع هي: الصفوة التقليدية، الصفوة التكنوقراطية، الصفوة المالكة، الصفوة الكاريزمية، الصفوة الأيديولوجية، الصفوة الرمزية، الصفوة الثقافية، الصفوة العسكرية(27).
وإذا كانت الصفوة تتركز حول السلطة والتأثير،فإنه لا بد من استخلاص قانون التنظيم الذي بموجبه تتحدد القوة والتأثير،وهو القانون الذي استخدمه"ماكس فيبر"ليميز بين ثلاثة أنواع من السلطات ذات التأثير،وهي السلطة التقليدية،والسلطة المنطقية،والسلطة الكاريزمية.
وقد تمكن بعض الباحثين في ضوء نظرية"ماكس"من تطبيق هذا التصنيف-السالف الذكر-وذلك بإبراز ثمانية أنواع من الصفوة سنتعرض لها فيما يلي:
1ـ الصفوة التقليدية: تتمتع هذه الصفوة بسلطة منبثقة من عقائد دينية أو من أبنية اجتماعية،تعود جذورها إلى الماضي البعيد وتدعمها أفكار عميقة،وعليه يمكن القول أن كل صفوة ذات طبيعة أرستقراطية هي صفوة تقليدية،وغالبا ما تتكون الصفوة التقليدية من نبلاء لهم تاريخ طويل متوارث،فمثلا،رئيس القبيلة له سلطة قوية على أفراد قبيلته،لأنه ينحدر من سلالة احد الآلهة الأسطورية.
وتعتبر الصفوة الدينية في الوقت ذاته،صفوة تقليدية،ذلك أن سلطتها تقوم على احترام بعض الحقائق التي شاعت بين الناس،ويلاحظ أن هذا النوع من الصفوة يحتل مكانة مهمة في الدول النامية.
2ـ الصفوة التكنوقراطية: وتقوم سلطة هذه الصفوة-التي تندرج في إطار بناء بيروقراطي-على قاعدتين،أن يتم تعينها أو انتخابها بمقتضى القوانين المعمول بها أو المعترف بها،أو يعترف بكفاءتها حسب المعايير المعروفة والمعمول بها،وتتأسس كفاءة أعضاء هذه الصفوة بطريقة من الطرق التالية"بعد أداء اختبارات عن طريق لجان التحكيم،او حسب المستوى التعليمي الذي وصل إليه العضو،أو حسب الخبرة أو الأقدمية،كما انه في بعض الحالات يقع الاختيار بواسطة الانتخاب الشعبي.وعادة ما تتكون الصفوة التكنوقراطية،من الطبقة العليا الإدارية التي يتمركز أعضاؤها في الحكومة أو من ممثلي الحكومة،أو من الهيئات الصناعية والمالية وغيرها،وتعرف جميع هذه الأنواع بـ"الموظفين"أي كبار الإداريين او كبار المندوبين،وحسب رؤية ماكس فيبر،فإن هذه الصفوة تتمتع بسلطة منطقية-شرعية فهي صفوة ذات سلطة وتأثير،وتحتل مركز القيادة في الوظائف الخاصة بالحكومة والمؤسسات(28).
3ـ الصفوة المالية(الاقتصادية): تستمد هذه الصفوة سلطتها مما تمتلكه من عقارات أو رؤوس أموال،وهي سلطة تفرضها على اليد العاملة التي تستخدمها لقضاء حاجاتها،كما تمكنها ثروتها من ممارسة قوة الضغط او التأثير على الصفوات الأخرى،مثل الصفوة التقليدية والتكنوقراطية ،مما يضفي على هذا النوع من الصفوات سلطة اجتماعية واسعة،وتتكون هذه الصفوة الملكية أو الاقتصادية من كبار ملاك الأراضي وأرباب الصناعات وأصحاب رؤوس الأموال.
وفي العادة يكون لقرارات أعضاء هذه الصفوة تأثيرا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يؤثر بالتالي على عملية التغيير الاجتماعي إيجابا أو سلبا.
4ـ الصفوة الكاريزمية: يتصف أعضاء هذا النوع من الصفوات،ببعض الصفات الروحية والموهبة غير العادية،وهي صفات او مميزات،لا علاقة لها بالمكانة الاجتماعية التي يحتلها الفرد في السلم الاجتماعي أو المجتمع،ولا بمكاسبه المادية،وإنما مردها إلى أشخاص معينين يطلق عليهم صفة الكاريزما،وذلك مقابل ما يقومون به من أعمال أو بما لهم من مقدرة على القيام بها(29).
وفي هذا الإطار لا بد أن نشير،إلى أننا نعني هنا بالحديث"القادة الكارزميين"وليس"الصفوات الكاريزمية"،ولكن في بعض الأوساط أو الطبقات الاجتماعية التي يغلب عليها الطابع الديني، وحتى في بعض الحركات السياسية والاجتماعية،يمكن أن نستخدم مفهوم الصفوة،وكثيرا ما يحدث في مثل هذا النوع من الصفوات أن تمتد السلطة الكاريزمية من الرئيس أو القائد إلى الذين يحيطون به ومن ثم إلى مجموع جماعته أو فريقه.
5ـ الصفوة الأيديولوجية: ينمو هذا النوع من الصفوات،ويتبلور حول أفكار أيديولوجية،وهي تتكون من أشخاص او جماعات يشتركون في مفهوم أيديولوجي واحد،ويعملون على نشره،كما ويتحدثون بلسانه،وليسن الصفوة الأيديولوجية بالضرورة ذات قوة-كما يرى ميلز-وإنما هي صفوة ذات تأثير دون أن تكون بها سلطة رسمية،ومن هذا النوع من الصفوات نجد الصفوة المضادة التي تقف في وجه السلطة الحاكمة أو صفوة السلطة.
وإذا كانت الصفوة الأيديولوجية ذات تأثير،فإنها في اغلب الأحيان،تتطلع إلى إجراء تغييرات تستهدف إعادة توجيه الحركة التاريخية.
ويرى ميلز،بأن من الخطأ التقليل من الدور الذي تلعبه هذه الصفوات المعارضة في حركة التاريخ،فالصفوة الحاكمة تعارض الصفوة الأيديولوجية،لأنه بإمكان هذه الأخيرة،إحداث تغييرات عميقة في حركة التاريخ.
6ـ الصفوة الرمزية: تتكون هذه الصفوة من أشخاص ينظر إليهم الناس على أساس أن لهم قيمة رمزية،وهي تشغل وظائف مهمة وتتميز بصفات رمزية،فرؤساء الحكومة(مثلا) يرمزون إلى قيم وأفكار ينظر إليها الناس على أنها أفكار جديدة وحيوية وأنها تمثل النظام،ويدخل القادة الإيديولوجيون والزعماء الأبطال في إطار الصفوة الرمزية،كما أن هناك نوع آخر من الصفوات يقوم أعضاؤها بأعمال رمزية تتمثل في أسلوب معيشتهم وتفكيرهم وسلوكهم،كما تتجسد في بعض المواهب والاستعدادات والقيم فمثلا،الفنانون او المطربون الشعبيون ينظر إليهم شريحة الشباب بإعجاب ويعتبرونهم كأبطال،لأنهم يرمزون-حسب تصور هذه الشريحة-الى القوة والحب والتجديد والحرية،ولهذا يكون تأثير أعضاء هذه الصفوة على الشباب قويا.أما قنوات اتصال هذه الصفوة بالشباب،تكون عن طريق الراديو والتلفزيون والصحافة والسينما...الخ.
كما يكون الرياضيون المحترفون صفوة رمزية لها صفات خاصة،وخير دليل على ذلك،عدد المقالات والريبورتاجات التي تخصصها الصحف عن حياتهم الخاصة وعن تدريباتهم،وما حصلوا عليه في مبارياتهم من جوائز وتحطيم الأرقام القياسية.
7ـ الصفوة المثقفـة: تضم هذه الصفوة المؤلفين والفنانين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية،والمعلقين السياسيين.والمعلوم أن المثقفين في كل المجتمعات يمثلون الجماعات القادرة على ابتكار ونقد ونقل الأفكار،حيث لعب المثقفون كطبقة تختلف عن الطوائف الدينية والطبقات الحاكمة،دورا مهما في المجتمعات المتطورة والنامية على السواء،وخاصة عندما جعلوا أنفسهم"نقادا للمجتمع".ففي فرنسا(مثلا) تزعم المثقفون لواء معارضة الطبقة الحاكمة والكنيسة،كما لعب المثقفون دورا مهما في الحركات الثوري والعمالية(30).
وهناك رأيان حول توضيح الدور الذي يقوم به المثقفون، الأول يرى أن المثقفين لديهم القدرة على توزيع ولائهم بين الطبقات المختلفة،ومن ثم فهم يدافعون عن المصالح العامة في المجتمع، أما الرأي الثاني،فيرى أن الصفوة المثقفة سوف تجعل من نفسها طبقة اجتماعية عليا،بحيث ترفع نفسها فوق الطبقات الأخرى،وتتجه شيئا فشيئا نحو تكوين جماعة مصلحة خاصة بها(31).
8ـ الصفوة العسكرية: حظيت هذه الصفوة منذ فجر التاريخ،بالاهتمام نظرا للدور الهام الذي لعبه العسكريون في تشكيل تاريخ المجتمعات البشرية،وتوجيه الحياة السياسية فيها،وقد كشفت الدراسات التي أعدت حول الجوانب السياسية للجيش،عن عوامل مهمة فيما يتعلق بالأصول الطبقية للصفوة العسكرية،وعملية التنشئة الاجتماعية،وطبيعة القيم السائدة بين أعضاء الصفوة العسكرية،واثر هذه العوامل في إيجاد جماعة قيادية قوية متماسكة،واهم من ذلك أنها كشفت عن نقطة مهمة قد تجاهلتها دراسات الصفوة،وهي تحول القوة الكامنة إلى قوة فعلية،واثر ذلك في رسم السياسة والسلوك السياسي(32).
كما كشفت الدراسات الصفوية،عن الدور الذي تلعبه جماعة الضباط في المجتمعات النامية، وكيف أن دور هذه الجماعة قد يفوق تأثير قوة المثقفين او القادة السياسيين في بعض البلدان، ويرى المفكر"بوتومور"أن لهذه المجموعة سيطرة قوية في المجتمعات المستقلة حديثا،والتي لا تزال فيها النظم السياسية في طور التشكيل والسلطة السياسية غير مستقرة،فهي تسيطر على قوة السلطة العليا،وبالتالي لديها الفرصة للقيام بدور مهم في تحديد مصير الأمة.
أما تدخلها في الشؤون السياسية فيعتمد على مجموعة عوامل منها التقاليد التي تلقاها ضباط الجيش،وأصولهم الاجتماعية،ومدى تأثيرهم في الفرق العسكرية الخاضعة لسيطرتهم،ومن ناحية أخرى عمق القادة العسكريون علاقتهم بالقادة السياسيين في معظم البلدان.
الفئات الرئيسية للصفوات في المجتمع الصناعي:
يرى معظم علماء الاجتماع والسياسة،أن هناك ثلاث محاور تدور حولها نظرية الطبقات،ونظرية السلطة المحور الأول،يخص تيار نظريات الطبقات الذين يرون أن الطبقات تكافح من اجل الوصول إلى السلطة،والمحور الثاني،فهو يتعلق بعلم الامبريقي التجريبي الذي توصل إلى انه توجد في المجتمعات أقلية تحتل المناصب العليا وتشغل الوظائف الممتازة،وهي تتمتع بمداخيل عالية.
أما المحور الثالث والأخير،فيختص بنظرية الطبقة الحاكمة،والتي مفادها،أن الكثيرين من الاجتماعيين-منذ عهد ميكافللي وحتى باريتو-،يرون أن الميزة الأساسية في كل المجتمعات ليست هي الطبقات الاجتماعية،وإنما هي الجماهير المحكومة من طرف الأقلية الحاكمة(33).

ووفقا لهذه المحاور الثلاث حول الطبقة والسلطة،يمكن تحديد أهم الفئات الرئيسية للصفوات، والتي ترتبط بالمجتمع الصناعي وهي(34):
1ـ فئتا الكهنة(أي ممثلي الديانات القديمة)والمثقفون ورجال العلم،وهم الذين يعبرون عن الفكر الملائكي.
2ـ القادة السياسيون،وهي في العادة على صلة ببقية الفئات الأخرى كالموظفين والمتصرفين الإداريين وقادة الجيش والشرطة.
3ـ المديرون للعمل الجماعي،وهؤلاء يمكن أن يكونوا من الذين يمتلكون وسائل الإنتاج،أو ما يمكن أن يطلق عليهم اليوم"رجال الإدارة"وهم الذين بما يتمتعون به من تكوين وكفاءة في التنظيم والإدارة يمسكون بمقاليد العمل الجماعي.
4ـ قادة الجماهير،وهم الذين يوجهون مطالب العمال داخل المجتمع،وأحيانا أيضا يتطلعون إلى السلطة السياسية في إطار روحي،كما هو الحال في بريطانيا،حيث نجد ان قادة العمال،يفتتحون مؤتمراتهم العامة وبصفة دائمة بممارسة نوع من"الصلاة" تعبيرا منهم نحو "الديانة التقليدية"، في حين نجد أن هذا السلوك من الصعوبة بمكان حدوثه بالنسب للحزب الشيوعي الألماني أو في مؤتمرات الحزب الاشتراكي أو الحزب الشيوعي في فرنسا.
دور الصفوات في التغيير الاجتماعي في البلدان النامية:
يرى بعض علماء الاجتماع وعلى رأسهم الإنجليزي"بوتومور"أن دراسة الصفوة ودورها في التغيير الاجتماعي،لم تحظ بمثل ما حظيت به من الاهتمام في المجتمعات النامية،وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية،حيث ان هناك ارتباطا عميقا بين التغييرات التي مست البناء الاجتماعي وبين نشأة الصفوات الاجتماعية أو زوالها،فالتغييرات الاقتصادية والسياسية(مثلا) تحدث في البداية تعديلات في مراكز الجماعات المختلفة داخل المجتمع بما تمتلكه من قوة،ثم لا تلبث هذه الجماعات التي تتزايد قوتها،أن تسعى للتحكم في التغييرات ودفعها إلى الأمام.

والملاحظ انه منذ منتصف العشرين،أصبحت البلدان النامية ميدانا ثريا لدراسة القوى الاجتماعية التي تساعد على ظهور صفوات أو نخب جديدة،بالإضافة إلى أنشطة الصفوات ذاتها وما تقوم به من ادوار في ميدان توجيه عمليات التغير الاجتماعي في مجتمعاتها وخاصة في الميدان الاقتصادي.
وفي هذا الإطار،قسم العالم"بوتومور"في كتابه" الصفوة والمجتمع"البلدان النامية إلى أربعة مجموعات تتشابه فيما بينها،من حيث البناء الاجتماعي والثقافي وهي(35):
أـ بلدان أفريقيا: تمكنت بلدان هذه المجموعة من تحقيق استقلالها بعد صراع طويل ضد الاستعمار الذي ترك بصماته العميقة في نظمها السياسية،وتواجه هذه المجموعة بالإضافة إلى مشكلات النمو الاقتصادي مشكلات خاصة ببناء الوحدة الوطنية لمجتمع يتألف من جماعات قبلية لا تزال تتصارع فيما بينها،وعمل الاستعمار على تعميق هوة الخلافات والتشجيع على التفرقة العنصرية بينها.
ب ـ بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: توجد بين بلدان هذه المجموعة فئة تكونت من خلال صراعات مستقلة ضد الحكم الاستعماري،وان كانت هناك دول كثيرة قد حظيت باستقلالها السياسي لفترة زمنية،وكان عليها ان تقاوم الرقابة المباشرة التي فرضت على مواردها الاقتصادية من طرف القوى الأجنبية،أما المشكلات السياسية ،فتتمثل في تغير الأنظمة الإقطاعية والاوتوقراطية للحكومات التي تقوم على نسق جامد او ثابت.
ج ـ بلدان جنوب شرق آسيا: تتميز بلدان هذه المجموعة،بأن مجتمعاتها ذات حضارات قديمة، تأسست فيها أنظمة اجتماعية تقليدية إلى حد كبير،ولكنها حققت استقلالها السياسي حديثا،وبالرغم من أنها لم تواجه مشكلات أساسية تتصل بتكامل المجموعات القبلية في مجتمع قومي-كما هو الحال بالنسبة لبلدان أفريقيا- إلا أنها واجهت مشكلات تقترب من الوحدة الوطنية،فهي بقدر ما تنقسم إلى طوائف أو أقاليم تسود فيها لغات ولهجات معينة(كالهند)،فإنها تضم جماعات عنصرية ولغوية منفصلة مثل طائفة"السيخ"في الهند،والتاميليون والسنهاليون في سيريلانكا والماليزيون والصينيون في الملايو...الخ.
د ـ بلدان أمريكا اللاتينية: وتختلف هذه المجموعة من البلدان في وجوه عديدة عن البلدان الأخرى،فهي أكثر تقدما اقتصاديا(نسبيا) كما أنها متحضرة على نحو يفوق كثير البلدان الزراعية،بالرغم من أنها قد أخذت بالتصنيع حديثا،بالإضافة إلى ذلك أنها حققت استقلالها السياسي منذ وقت طويل نسبيا،ولهذا لم تصبح المشكلات السياسية هي مشكلات الوحدة الوطنية،مع ان بعضها لم يكتسب فيها عدد كبير من السكان الهنود حقوق المواطنة حتى اليوم.
وتتمثل المشكلات الرئيسية لهذه المجموعة في المشكلات التي رافقت التصنيع والزيادة الديموغرافية،وظهور حركة العمل داخل النظام السياسي الذي يسيطر عليه-ولفترة زمنية طويلة-كبار ملاك الأراضي،فضلا عن انه غالبا ما كان يحكم بواسطة ديكتاتوريات عسكرية.
جماعات "الصفوة"الرئيسية في البلدان النامية:
حددت بعض الدراسات الحديثة عن تصنيع جماعات الصفوة المهمة في البلدان النامية،وخلصت الى وجود خمسة نماذج رئيسية للصفوات التي تقود في الغالب عملية التغيير والتنمية في البلد هي(36):"الفئة التي لها علاقة بالمجموع الحاكمة،الطبقة الوسطى في المجتمع،فئة المثقفون الثوريون،فئة الإداريون،فئة القادة الوطنيون".
ونود ان نشير في هذا الصدد إلى وجود صفوتين من هذه الصفوات الخمس ليس لها أهمية كبيرة في الوقت الحاضر هما:فئة الإداريون،والفئة ذات الصلة بالجماعة الحاكمة،فقد عملت الصفوة الأولى(الإداريون)في آسيا وأفريقيا على توفير بعض متطلبات التنمية الصناعية ،وذلك عندما أسسوا نظاما إداريا وقضائيا اتسم بالكفاءة،وادخلوا التعليم الحديث للتجارة والبنوك،فضلا عن إنشاء بعض الصناعات الحديثة،ومع ذلك فإن هذه الإنجازات لا يمكن أن تؤدي مباشرة إلى التحديث،وبالتالي إلى التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
أما بالنسبة للصفوة الثانية(التي لها علاقة بالجماعة الحاكمة)والتي تتكون من كبار ملاك الأراضي،والأرستقراطية التجارية،فإن دورها محدود جدا في هذا الميدان،فقد قامت هذه الصفوات ببعض المحاولات في بلاد قليلة بالشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية بهدف إحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية،إلا أن سياستها كانت مرتبطة بمصالحها،وفي مقدمتها المحافظة على النظام السياسي.
وبخصوص الصفوات الثلاث الأخرى(الطبقة الوسطى-المثقفون الثوريون-القادة الوطنيون) فإن لها دور بارز في معظم البلدان النامية،فالطبقات الوسطى بصورة عامة لها تأثير في ميادين التنمية الاقتصادية،ليس عن طريق الإسهام الذي تقدمه بفضل مهاراتها الخاصة فحسب،وإنما من خلال الالتزام بالأساليب الحديثة لحياة المجتمع،ففي معظم البلدان التي خضعت للاستعمار في آسيا وأفريقيا،برزت الطبقات الوسطى،وفي معظم الأحيان كنتيجة للنظم التعليمية والإدارية التي أدخلتها القوة الاستعمارية الحاكمة، كما كان الحال في الهند،وبلا شك فإن الصفوة السياسية تلعب في البلدان النامية دورا طليعيا في تحديد مجرى النمو،وهي الصفوة التي توجد أصولها-غالبا-في إحدى الجماعتين،المثقفون الثوريون او القادة الوطنيون،كما يلاحظ أن المثقفين في أغلبية البلدان الآسيوية والأفريقية يقومون بدور بارز في الصراع ضد الحكم الاستعماري،وعادة ما يكون طلاب الجامعات هم حملة لواء الاستقلال،كما عمل الكثير من الذين أكملوا دراستهم في الخارج على إنشاء أحزاب وطنية جديدة.
أما بالنسبة للقادة الوطنيين،فنجد أنهم لم يكونوا دائما من المثقفين او الثوريين،ففي الهند(مثلا) نجد أنهم لا ينتمون لأي من الفريقين،فالاتحاد الوطني نشأ وتأثر إلى حد كبير بالمثقفين الذين تشبعوا بالأفكار الغربية،ولذلك فإن تأثيرهم لم يستمر لفترة طويلة،اذ واجهتهم بعد فترة تأثيرات القادة السياسيين الذين ينتمون لجماعات مهنية او لقطاع الأعمال،بالإضافة إلى المذاهب الأخلاقية والاجتماعية التي صاغها"غاندي"والمستلهمة من الفكر الديني التقليدي.
ويعتبر قادة الحركات الوطنية،إحدى الصفوات المهمة في المجتمعات الآسيوية والأفريقية،وذلك أن حوافز التنمية الاقتصادية تتمثل في الصراع من اجل الاستقلال السياسي،وقد يكون هؤلاء القادة أيضا من خريجي الجامعات الأوروبية ومن أتباع الاتجاه الراديكالي أو من رجال الأعمال الوطنيين،وأصحاب المهن الفنية العليا أو من ممثلي جماعات الصفوة التقليدية،ولكنهم جميعا متماثلون من حيث أن قوتهم تعود إلى قيادتهم لحزب سياسي أو لجبهة ثورية من اجل التحرر من المستعمر(37).( * كاتب وباحث أكاديمي).