الثقافة و مستقبل الهوية الفلسطينية كنت قد قدمت في ندوة سابقة عقدت قبل أشهر قليلة في جمعية إنعاش الأسرة, محاضرة بعنوان: " التراث الشعبي والهوية ", نشرت في حينه في العدد التاسع والعشرين الذي صدر في كانون ثاني 1997 من مجلة التراث والمجتمع، وسأنطلق الآن من بعض ما جاء في تلك المحاضرة، حيث ذكرت في نهايتها أن الخطر الرئيس الذي يواجه الفلسطينيين اليوم ليس خطر الإبادة الجسدية ولا خطر ضياع الأرض، وإنما خطر انحلال وذوبان الهوية الفلسطينية، وقد طرحت في حينه مشروعا مكونا من بندين يراد بهما الحفاظ على الهوية الموحدة لجميع الفلسطينيين .
كان البند الأول: هو ضرورة تأسيس ما أسميته " بنك معلومات ديمغرافية الشتات الفلسطيني “، والبند الثاني: كان ما أسميته "مشروع محو ألامية الثقافية الفلسطينية". وما أريد أن افعله هنا هو التوسع في فكرة "مشروع محو الأمية الثقافية الفلسطينية".وسأحاول في هذه المحاضرة التعرف على مواصفات العناصر الثقافية التي تصلح للإستعمال في مثل هذا المشروع.
على الرغم من كل الحديث الذي يدور في العالم الغربي اليوم حول التعددية الثقافية، فإن جميع شعوب العالم اليوم التي تسلك كوحدة قوية وككل متماسك وذات هوية موحدة تمتاز بأنها تقوم على أساس وجود لغة موحدة وحدود جغرافية معروفة وثقافة وطنية موحدة ومشتركة بين جميع أفرادها.
وتعتمد في نقل هذه الثقافة من جيل إلى جيل على استعمال اللغة الموحدة, وعلى نظام موحد من المدارس الأساسية, أي الابتدائية والثانوية التي تعلم برامج موحدة في صلبها و جوهرها, وعلى تجربة الخدمة العسكرية الإجبارية الموحدة التي تلي عادة إنهاء المدرسة الثانوية مباشرة (فقد اعتمدت إسرائيل مثلا على هاتين المؤسستين في خلق نواة ثقافية موحدة من اصل جماعات مختلفة ثقافيا واجتماعيا وعرقيا).
فالإنسان الحديث لا يعطي ولاءه لملك أو قائد ولا لأيدلوجية سياسية وإنما قبل ذلك كله لثقافته. وينتج عن وجود هذه النواة أو اللب من الثقافة المشتركة بين جميع أفراد المجتمع الواحد أسهل وأكثر منها عبر حدود ذلك المجتمع لأن عملية الاتصال والتفاهم بسهولة ودقة بين أفراد المجتمع الواحد عملية هامة جدا للحفاظ على وحدة وتماسك ذلك الشعب أو المجتمع، وعلى استمرارية هويته الثقافية الموحدة.
كيف تأتي سهولة الإيصال بين أبناء الثقافة الواحدة؟
سهولة ونجاح الإتصال هذه تأتي من طبيعة اللغو والعقل الإنساني وكيفية الإتصال بين بني الإنسان. اللغة ليست مجرد مفردات وليست مجرد معان حرفية للمفردات وإنما هناك معان ومعان للمعاني, أو مستوى ثان من المعاني، وهذا المستوى الثاني مهم جدا بين بني الإنسان، عندما نسمع حديثا أو نقرأ مادة مكتوبة فان المعنى السطحي الحرفي والصريح لكل مفردة نقرؤها أو نسمعها يكون أشبه بقمة الجبل الجليدي التي تظهر فوق سطح الماء، ولكن القسم الأكبر المخفي تحت السطح هو المعنى الذي يضيفه القارىء أو السامع من معلومات لديه، هو ذات علاقة بتلك المفردة، وقد يضيف القارىء تلك المعلومات دون وعي منه ودون الإنتباه بأنه أضافها إلى المعنى. هذا الجزء المخفي هو ما أسميته "معنى المعنى" وهذه "الهالة" من المعاني التي نضيفها إلى كل مفردة وكل ومز وكل إشارة تتكون من جميع التداعيات والارتباطات والذكريات والصور والمشاعر والعواطف التي تستدعيها تلك المفردة على المستوى الواعي واللاواعي من ذهن القارىء أو السامع. فنحن عادة نقول أكثر بكثير مما نلفظ, و نفهم أكثر بكثير مما نسمع. وكما كان الرمز الظاهر اقرب إلى تجارب الفرد الحياتية والفكرية والعاطفية كلما ازدادت مساحة تلك الهالة من المعني والتداعيات التي يجلبها الرمز إلى ذهن ذلك الفرد. و كلما كانت التجارب والمعارف بين أي فردين أكثر زادت مساحة الهالات أو معاني المعاني المشتركة للرموز بينهما, كلما سهل التفاهم بينهما دون الحاجة إلى الكثير من الكلام والى التوضيح والتفسير, والعكس بالعكس, وعليه فانه كلما زادت المعارف الثقافية المشتركة سهل الاتصال, ولذلك يقال عادة عن أي توأمين بأنهما يستطيعان التفاهم حتى بدون كلام ويعرف كل منهما ما يريد الآخر قوله حتى قبل أن يقوله.
بعكس ذلك فان التفاهم بين شخصين من ثقافتين مختلفتين يكون أصعب وبحاجة إلى مقدار اكبر من التوضيح والتفسير, وقد يحدث بينهما الكثير من سوء الفهم نتيجة افتراضات خاطئة حول مقدار المعلومات الضمنية الموجودة لدى كل منهما, ولذلك فإن المثل القائل: " ابن بطني بفهم رطني " هو أصدق من القول " إن اللبيب من الإشارة يفهم " فأغلب الظن أن " اللبيب " يفهم لأنه في الحقيقة " إبن بطني " أي لأنه يشترك معي في معرفة دلالات تلك الإشارة.
لا حاجة إلى الإطالة في الشرح حول ما حدث للشعب الفلسطيني و حول أوضاع الفلسطينيين في الوقت الحاضر (ولكن تصوروا كم من الشرح كنت سأحتاج لو كان المستمعون أناس جاؤوا من المريخ) بل يكفي أن نشير إلى أن ما حدث للفلسطينيين من التشتت واللجوء, قد قلل من الاتصال بينهم, اضف إلى ذلك انخراط الكثيرين منهم بمجتمعات أخرى, وتأثرهم بثقافتها, وعدم وجود مدارس خاصة بهم, وعدم تحكمهم بمناهج التدريس في أماكن تواجدهم, وطبعا عدو وجود تجربة الخدمة العسكرية العامة والموحدة لديهم.
كل ذلك قلل من العناصر الثقافية الفلسطينية المشتركة بينهم وأضاف الابتعاد الجغرافي والجسدي بينهم فروقا ثقافيا نجعل التواصل والتفاهم بينهم صعبا حتى لو تمكنوا من اللقاء جسديا, كما حدث لقسم منهم منذ اتفاق اوسلو.
لااظنني افشي سرا عندما أقول انه قد ظهرت هناك بعض الصعوبات في الاتصال والتفاهم بين بعض العائدين وبعض المقيمين في الضفة والقطاع.
وإذا عدنا إلى ما ذكرنا سابقا عن دور الثقافة في الاتصال والتفاهم فإنه يمكن القول أن الكثيرين من الفلسطينيين قد أصبحوا " معاقين ثقافيا " على مستوى الثقافة الفلسطينية, وهم بحاجة إلى " تأهيل ثقافي " ليتمكنوا من الالتحام بالثقافة الفلسطينية الأم إذا تسنت لهم العودة, أو لكي يبقى الشعب الفلسطيني شعبا واحدا له هوية موحدة وشخصية موحدة. هذا " التأهيل الثقافي للفلسطينيين المعاقين ثقافيا " هو ما قصدته بطرحي " مشروع محو الأمية الثقافية الفلسطينية " في المحاضرة السابقة.
وهنا نصل إلى السؤال: ما هي العناصر أو المعلومات التي يجب أن يحويها مثل هذا البرنامج؟
إنني لا أريد ولا اقدر أن أتقدم بلائحة تحتوي على العناصر المطلوبة ولكن، اعتمادا على ما ذكرناه سابقا، فأن لدينا بعض مواصفات هذه العناصر التي يجب أن تكون موجودة ضمن الخلفية الثقافية لجميع أو معظم الفلسطينيين البالغين العاقلين المؤهلين للمشاركة في المجتمع الفلسطيني بشكل مقبول و فعال.
وسأكتفي هنا بذكر بعض هذه المواصفات أملا أن أعود إلى تفصيل العناصر نفسها في محاضرة قادمة. هذه المعلومات ليست بالضرورة عن فلسطين والفلسطينيين وإنما مما يهم الفلسطينيين، ومن المواضيع التي تثير في أذهانهم مقدارا كبيرا من التداعيات والمعلومات الضمنية والعواطف والمشاعر، فمعرفة من هو هرتسل أو وايزمن ضرورية للشخص المثقف فلسطينيا بقدر ما هو ضروري أن يعرف من هو الحاج امين وفوزي القاوقجي.
و كذلك فإن هذه المعلومات يجب أن تكون ذات عمق وذات استمرارية في الثقافة الفلسطينية, وليست عابرة, ولكن قابلة للتطوير والتغير, ولكن ببطء وتدريجيا.
القسم الأكبر من هذه المعلومات سيأتي طبعا من التراث الفلسطيني الرسمي والشعبي, ومن تاريخ فلسطين والفلسطينيين, ومن جغرافية فلسطين, ولكن قسما كبيرا منها يجب أن يكون, كما ذكرنا سابقا, من وعن غير فلسطين و الفلسطينيين ولكن مما يهم الفلسطينيين ومما كان له اثر في تاريخهم. وبشكل عام, وكما ذكرنا سابقا, هذه المجموعات يجب أن تكون بمجموعها خلفية ثقافية يؤهل الفرد على الاتصال والتفاعل والتفاهم بنجاعة وطلاقة ومرونة في المجتمع الفلسطيني.
وطبعا إنني أتحدث هنا عن الخصوصية الفلسطينية بالذات وافترض أن هذا الإنسان الذي نسعى إلى تأهيله فلسطينيا هو في الأصل مؤهل على المستويين العربي والإسلامي والعالمي, و إلا لما كان هناك حاجة لتأهيله فلسطينيا, ولا نفع يرجى من ذلك. بقي أن أقول أن مثل هذا المشروع يتطلب جهازا ضخما محليا كما يحتاج إلى تعاون وثيق مع سلطات الدول المضيفة ومع قيادات التجمعات الفلسطينية في تلك الدول.
نعود فنلخص ما قلناه سابقا بأن الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني قد أصبحوا " معاقين ثقافيا " بالنسبة إلى جوهر الثقافة الفلسطينية وهذه الإعاقات تزيد مع مطلع شمس كل يوم سواء بين الفلسطينيين في الشتات أو بين المقيمين على ارض الوطن ونحن بحاجة إلى برنامج " إعادة تأهيل " لهؤلاء الناس، وإذا نجحنا في تنفيذ مثل هذه المشروع فقد يمكننا أن نأمل ببقاء الشعب الفلسطيني شعبا واحدا له هوية وثقافة موحدة.
المصدر