من بريدي
عبدالعزيزالسدحان

الحمد للهنحمده ونستعينه ونستغفره... أما بعد:

لقد خلق الله الإنسان فيهذه الحياة وهيّأ له من الأسباب والمسببات ما يضمن له صلاح حياته القلبية والبدنية،إن هو أحسن استغلالها وترويض نفسه عليها، فالإنسان في هذه الدنيا في مجاهدة معأحوالهالَقَدْ خَلَقْنَاالْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد:4] مكابدة لنفسه، ومكابدة لنزعات الشيطان، ومكابدة لمصاعب الحياة ومشاقهاوأهوالها، يَغلبُ تارةً ويُغلبُ أخرى، يفرح ويحزن، يضحك ويبكي، وهكذا دواليك. فالحياة لا تصفو لأحد من أكدارها.

يختلف الناس في خوضمعتركها، يتعثر أقوام فيستبطئون ويبادر آخرون إلى جهاد أنفسهم فيعانون، وقد تعاودهمأكدار الحياة كرة بعد أخرى.

وإن من أكدار الحياة حالةتنتاب كثيراً من الناس، بل لو قيل ( لا يسلم منها أحد ) لم يكن ذلك بعيداً، والناسفيها بين مستقل ومستكثر.

إن ضيق الصدر وما ينتابالمسلم من القلق والأرق أحياناً، مسألة قد تمر على كل واحد منا، تطول مدتها مع قوموتقصر مع آخرين.

ترى الرجل إذا أصابته تلكالحالة كئيباً كسيراً تتغير حاله، وتتنكر له نفسه، قد يعاف الطعام والشراب، بكاءوحزن، وحشة وذهول، وقد تغلب أحدهم نفسه، فيشكو أمره إلى كل من يجالسه ويهاتفه، دونأن يجاهد نفسه طرفة عين.

يراه جليسه ومن يشاهده فيرىعليه من لباس الهم والغم ما الله به عليم، يستسلم للشيطان بجميع أحاسيسه، فيُظهر لكمن اليأس والقنوط والشكوى، ما يغلق أمامك الكثير من أبواب الفرج والتنفيس، حتى إنبعض أولئك يوغل في الانقياد لتلبيس الشيطان، ويكاد أن يقدم على خطوات تغير مجرىحياته، من طلاق للزوجة، وترك للوظيفة، وانتقال عن المنزل، وما يتبع ذلك، وقد يصلأمره إلى الإنتحار؛ مما يدل على عظم تلبيس إبليس عليه.

إن للهمّ أسباباً حسّيةومعنوية، وقد يكون الهم مفاجئاً لصاحبه لا يعرف له سبباً.

شاهد المقال: أن حالة ضيقالصدر، تجعل العبد أحياناً حبيس الهواجس والوساوس ؛ فيبقى المسكين أسيراً لكيدالشيطان، مرتهناً بقوة تلبيسه عليه، وبضعف مجاهدته له.

معاشر المسلمين:

ولما كان تلك الحالة تعتريكثيراً من المسلمين فتؤثر على عباداتهم وسلوكياتهم، ناسب أن يكون الكلام عن الأسبابالتي تعين على انشراح الصدر، وتنقله من تلك الغشاوة التي أظلمت عليه، إلى حالة يشعرفيها بالراحة النفسية والطمأنينة القلبية.

فيقال وبالله تعالىالتوفيق: إن أسباب انشراح الصدر كثيرة، يكتفي في هذا المقام بذكر ثمانية أسبابمنها، علها أن تكون شاملة لغيرها مما لم يذكر.



السبب الأول: قوة التوحيد

إن من أعظم الأسباب لشرحالصدر وطرد الغم، بل هو أجل الأسباب وأكبرها: قوة التوحيد وتفويض الأمر إلى اللهتعالى، بأن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً لا شك فيه ولا ريب، أن الله عز وجل وحدهالذي يجلب النفع ويدفع الضر، وأنه تعالى لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه، عدل فيقضائه، يعطي من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحداً. فعلى العبد أن يحرص على عمارة قلبهبهذه الاعتقادات وما يتبعها فإنه متى كان كذلك؛ أذهب الله غمه، وأبدله من بعد خوفهأمناً.

قال الإمامابن القيم رحمه الله تعالى:

( فمحبة الله تعالى ومعرفتهودوام ذكره، والسكون إليه والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكلوالمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جَنّةُالدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين ). انتهىكلامه رحمه الله.

السبب الثاني: حسن الظن بالله



حسن الظن بالله تعالى، وذلكبأن تستشعر أن الله تعالى فارجٌ لهمك كاشفٌ لغمك، فإنه متى ما أحسن العبد ظنه بربه،فتح الله عليه من بركاته من حيث لا يحتسب،فعليك يا عبد الله بحسن الظن بربك ترى منالله ما يسرك، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قا رسول الله: { قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي، إن ظنخيراً فله، وإن ظنّ شراً فله } [أخرجه الإمام أحمد وابن حيان]، فأحسنظنك بالله، وعلِّق رجاءك به، وإياك وسوء الظن بالله، فإنه من الموبقات المهلكات،قال تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْوَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً[الفتح:6].



السبب الثالث: كثرة الدعاء



كثرة الدعاء والإلحاح علىالله بذلك، فيا من ضاق صدره وتكدر أمره، ارفع أكف الضراعة إلى مولاك، وبث شكواكوحزنك إليه، واذرف الدمع بين يديه، واعلم رعاك الله تعالى: أن الله تعالى أرحم بكمن أمك وأبيك وصحابتك وبنيك.

عن عمر بن الخطاب رضي اللهتعالى عنه قال: قدم على النبي سبيٌ، فإذا امرأه من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدتصبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي: { أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ }قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: { الله أرحم بعباده من هذه بولدها } [أخرجه البخاري].



السبب الرابع: المبادرة إلى ترك المعاصي



تفقد النفس والمبادرة إلىترك المعاصي، أتريد مخرجاً لك مما أنت فيه وأنت ترتع في بعض المعاصي؟ يا عجباً لك! تسأل الله لنفسك حاجتها وتنسى جناياتها، ألم تعلم هداك الله تعالى أن الذنوب بابعظيم ترد منه المصائب على العبد: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْأَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[الشورى:30]،أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُممُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْعِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:165].

استسقى العباس بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه، فقال في دعائه: ( اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بذنب ولاتنكشف إلا بتوبة ).

قال الإمامابن القيم رحمه الله تعالى:

( وما يُجازى به المسيء منضيق الصدر، وقسوه القلب، وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمرلا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوباتعاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة. والإقبال على الله تعالى والإنابه إليه والرضى بهوعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل،وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة... ) [الوابل الصيب:104] انتهى كلامهرحمه الله تعالى.

فبادر رعاك الله إلى محاسبةنفسك محاسبة صدق وإنصاف، محاسبة من يريد مرضاة ربه والخير لنفسه، فإن كنت مقصراً فيصلاة أو زكاة أو غير ذلك مما أوجب الله عليك أو كنت واقعاً فيما نهاك الله عنه منالسيئات، فبادر إلى إصلاح أمرك، وجاهد نفسك على ذلك، وسترى من الله مايشرح صدركوييسر أمركوَالَّذِينَ جَاهَدُوافِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[العنكبوت:69] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق:3،2] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَيَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً[الطلاق:4] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَيُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً[الطلاق:5].

فبادر هداك الله إلى تقوىالله ولن ترى من ربك إلا ما يسرك بإذنه تعالى.

قال الإمام ابن الجوزي: ( ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهمومبكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص، فعرضت لي هذه الآية: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًفعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كانإلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج... ) [صيد الخاطر:153] انتهى كلامه.



السبب الخامس: أداء الفرائض والمداومة عليها



المحافظة على أداء الفرائضوالمداومة عليها، والإكثار من النوافل من صلاة وصيام وصدقة وبر وغير ذلك، فالمداومةعلى الفرائض والإكثار من النوافل من أسباب محبة الله تعالى لعبده، عن أبي هريرة رضيالله تعالى عنه قال: قال رسول الله: { إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وماتقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافلحتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطشبها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه }الحديث [أخرجهالبخاري].



السبب السادس: مجالسة الصالحين



الاجتماع بالجلساء الصالحينوالاستئناس بسماع حديثهم والاستفادة من ثمرات كلامهم وتوجيهاتهم، فالجلوس مع هؤلاءمرضاة للرحمن، مسخطة للشيطان، فلازم جلوسهم ومجالسهم واطلب مناصحتهم، ترى في صدركانشراحاً وبهجة ثم إياك والوحدة، احذر أن تكون وحيداً لا جليس لك ولا أنيس، وخاصةعند اشتداد الأمور عليك، فإن الشيطان يزيد العبد وهناً وضعفاً إذا كان وحيداً،فالشيطان من الواحد أقرب ومن الإثنين أبعد وليس مع الثلاثة، وإنما يأكل الذئب منالغنم القاصية.

شاهد المقال: أن تحرص أعانكالله تعالى على عدم جلوسك وحيداً، فجاهد نفسك وغالبها على الإجتماع بأهل الخيروالصلاح، والذهاب إلى المحاضرات والندوات، وزيارة العلماء وطلبة العلم فذلك يدخلالأُنس عليك؛ فيزيدك إيماناً وينفعك علماً.



السبب السابع: قراءة القرآن



قراءة القرآن الكريم تدبراًوتأملاً، وهذا من أعظم الأسباب في جلاء الأحزان وذهاب الهموم والغموم، فقراءةالقرآن تورث العبد طمأنينة القلوب، وانشراحاً في الصدورالَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمبِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد:28].

قال الإمام ابن كثير رحمهالله تعالى: ( أي تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيراً،ولهذا قال تعالىأَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُأي هو حقيق لذلك ) انتهى كلامه رحمه الله.

فاحرص رعاك الله علىالإكثار من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وسل ربك أن تكون تلاوتك له سبباً فيشرح صدرك، فإن العبد متى ما أقبل على ربه بصدق؛ فتح الله عليه من عظيم بركاتهيَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْجَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًىوَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ[يونس:57]،وَنُنَزِّلُ مِنَالْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُالظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً[الإسراء:82].



السبب الثامن: أذكار الصباح والمساء



المداومة على الأذكارالصباحية والمسائية وأذكار النوم، وما يتبع ذلك من أذكار اليوم والليلة، فتلكالأذكار تحصن العبد المسلم بفضل الله تعالى من شر شياطين الجن والإنس، وتزيد العبدقوةً حسيّة ومعنوية إذا قالها مستشعراً لمعانيها موقناً بثمارها ونتاجها، ولتحرصرعاك الله على تلك الأذكار المتأكدة فيمن اعتراهم همّ أو غم،ومن ذلك ما أخرجهالشيخان عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول اللهيقول عند الكرب: { لا إلهإلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربالسماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم }، وكذا ما أخرجه البخاري عنأنس رضي الله تعالى عنه أن النبيكان يكثر من قوله: { اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزنوالعجز والكسل... }إلى آخر الحديث.

وعن عبدالله بن مسعود رضيالله تعالى عنه قال: كان النبيإذا نزل به هم أو غم قال: { يا حي يا قيوم برحمتكأستغيث } [أخرجه الحاكم].

وعن أبي بكرة رضي اللهتعالى عنه أن رسول اللهقال: { دعوات المكروب: ( اللهم رحمتك أرجوا فلا تكلنيإلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأنه كله لا إله إلا أنت ) } [أخرجه أبوداود وابن حيان].

وعن عبدالله بن مسعود رضيالله تعالى عنه قال: قال النبي: { ما أصاب عبداً هم ولا حزن، فقال: ( اللهن إني عبدكوابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم لكسميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علمالغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي )، إلا ذهبالله حزنه وهمّه، وأبدله مكانه فرحاً } [أخرجه أحمد في مسنده وابنحيان في صحيحه]، إلى غير ذلك مما ورد من الأذكار في هذا الباب ونحوه.

اللهم إنا عبيدك بنو عبيدكبنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك،سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علمالغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا ويسر أمورنا، وهيء لنا منأمرنا رشداً.

وصلى الله وسلم على نبينامحمد وعلى آله وصحبه وسلم.