الجامعات السعودية: من سجال التصنيف.. إلى سجل الإصلاح والتطوير!!
عبدالله القفاري
السجال الذي دار قبل بضعة أسابيع حول تصنيف الجامعات السعودية المتأخر عالميا، فتح بابا واسعا لمناقشة مستقبل التعليم الجامعي، وبين قلة تدافع عن أوضاع الجامعات السعودية وتتهم التصنيف، وبين كثرة يقلقها هذه التصنيف لا سواه، سيبقى باب السجال مشرعا. بين أن نكتشف أننا نعاني من مشكلة تعليمية تتطلب مواصلة البحث عن حلول أجدى للواقع التعليمي بكل مراحله، وبين أن تثير حساسيتنا مسألة تصنيف ليست هي الشهادة الوحيدة على تواضع المنتج الجامعي لدينا.. بين كل هذا وذاك أرى أن باب السجال سيظل مفتوحاً لقراءة المشهد التعليمي من زوايا مختلفة.
نظام التعليم الجامعي الجديد الذي بين يدي مجلس الشورى هذه الأيام، يجب أن يأخذ بالاعتبار مسائل كثيرة في بنية النظام من أجل استعادة فكرة جامعة لها حضورها ومكانتها وانتاجها، لا أن يكون التركيز فقط على الاستقلالية المالية التي تشغل الكثيرين من أعضاء مجلس الشورى - وجلهم أستاذة جامعة سابقون - قبل أن تشغلهم فكرة استعادة جامعة لتكون فعلاً تعبيرا عن تفاعل علمي وبحثي واشعاع حضاري ومورد لا ينضب للكفاءات..
استعادة الجامعة لا يمكن أن تكون من خلال البحث عن استقلالية مادية فقط كما نفعل في أشياء كثيرة عندما نركز على هذا الجانب لا سواه. يجب أن يكون السؤال أي جامعة تريد؟ وما موقع الجامعة في مشروع اصلاح وطني لا ينتظر؟ وماذا يعني حضور الجامعة في تكوين عقل متعلم وتفاعل دارس وإنتاج باحث. وما مستقبل انشاء تلك الجامعات الجديدة اذا لم تكن فعلاً قادرة على أن تكون تعبيرا حقيقيا عن معنى جامعة لها حضور الجامعة ودورها واشعاعها في بيئتها؟ تلك الأسئلة هي التي قلما تتداول، ويدور جدل كثير حول تهيئة بيئة تعليمة وبحثية وكأن تلك البيئة لا ينقصها سوى الدعم المالي على أهميته.
الجامعة في كل أنحاء الدنيا حاضنة عقول ومصدر تفاعل ومعمل بحثي واندماج تنموي في سياق أوسع من قصة تأهيل أو شهادة دراسية.
الجامعة ليست فقط معملا وقاعة درس ومختبرا وشهادة انصراف بعد سنوات الخدمة.
الجامعة معيار أصيل لقياس حالة حراك ثقافي وفكري وهي أيضاً بحث علمي جاد وهي حاضن للأفكار الكبرى وهي معمل كبير لانتاج طاقات ليست المهنية فحسب ولكن طاقات تحمل رؤية تنموية مصدرها ذلك التفاعل الذي خلقته بيئة الجامعة.
لا يمكن فصل مشروع أي جامعة ناجحة عن سياق ثقافي عام، تستلهم فيه الجامعة باعتبارها حضناً ووعاء للفكر ومصدر اشعاع معرفي وتنويري في المجتمع، ولا يمكن في ذات الوقت أن نتصور أننا قادرون على انتاج مشروع جامعة لها ذلك الاشعاع دون أن يكون المجتمع متفهماً للبيئة الجامعية مقدراً انها حاضنة أفكار ومختبر بحث ومصدر تكوين ثقافي ناهيك أنها مصدر تزويد للطاقات والكفاءات لمختلف قطاع العمل والانتاج.
اليوم التراجع واضح في كلتا المهمتين، فلا جامعتنا مصدر إشعاع فكري وثقافي وتفاعل طبيعي مع قضايا المجتمع، كما ظل التعليم الجامعي بمخرجاته السنوية متهماً يعجزه عن الانسجام مع سوق العمل.
علينا أن ندرك أن الجامعة في كل مكان في هذا العالم مختبر كبير، ليس فقط من أجل حلول تنموية وقضايا بحثية أكاديمية فحسب أو مخرجات تعليمية، بل باعتبارها أيضاً حاضنة لحالة تفاعل بين طلابها وأساتذتها ومناهجها وعلومها وأبحاثها وندواتها ومختبراتها.. وهذا التفاعل لن تقوم له قائمة دون الالتفاف الى عدة معايير تجعل من الجامعة فرصة لبناء الذات بعيداً عن حالة انكماش وقلق.. وهذا مرتبط بقدرة الجامعة على أن تكون مصدرا تنويريا لا مدرسة ثانوية تستهدف انضباط المتلقي والحرص على امتثال التلقين. والتنوير مفهوم كبير تمتد حدوده وعلاقاته بين تلك المساحة من الحرية التي ينعم بها جو الجامعة من حرية البحث والمعلومة وحرية الاختيار ويمتد حتى مصدر انتاج علاقات سوية بين الأفكار والرؤى بما يتيح الفرصة الأوسع لبناء معقل تفكير وحاضنة نمو معرفي ونشاط ثقافي عريض تفاعله داخل أروقة الجامعة مصدر اثراء لا مصدر قلق، واضاءته خارج الجامعة مصدر اشعاع لا مصدر إرباك.
عندما تتغير النظرة للجامعة من كونها مصدر تعليم فقط الى مصدر اشعاع معرفي وانتاج بحثي وسجال ثقافي واقتراب من قضايا اليومي، سنكون فعلاً وصلنا إلى حدود البحث عن تلك الجامعة المفقودة، النقاش اليوم يدور حول مسألة نوعية التعليم فحسب، وعلاقته بسوق العمل، باعتبار أن الجامعة تتواضع قدراتها إلى مستوى تخريج كفاءات بلا تدريب، وبحث علمي تتواضع موازناته السنوية، ومرتبات أعضاء هيئة تدريس لا تكاد تفي التزاماتها.. لكن قلما كان النقاش حول المعنى الكبير للجامعة، باعتبارها معقلاً للعلم وحاضنة للأفكار والرؤى، يزاوج بين البعد المعرفي القادر على خلق الكفاءات العاملة، والبعد البحثي العلمي القادر على صياغة حلول لقضايا المجتمع والدولة والوطن، والبعد الثقافي الذي يجعل الجامعة مختبراً للرأي والحوار والابداع والتفاعل الإيجابي بين الرؤى والأفكار واعادة صياغة عقل متلق على نحو علمي أكثر نضجا وقبولا وأكثر قدرة على استلهام حالة تنوع. ذلك البعد المغيب والذي ترتب عليه انكماش الجامعة وجمودها، وانهماكها فقط في القدرة على توفير فرصة تعليم لا فرصة بناء شخصيات جامعية، وتواضع إنجازها مقابل أعداد خريجيها.
اولئك الذين لا يشغلهم سوى وضع الأستاذ الجامعي المادي ومحاولة البحث عن حلول لرفع امتيازات أستاذ جامعي يجعله يعطي أكثر اهتمامه للجامعة بدلاً من البحث الدائم عن مصادر أخرى في القطاع الحكومي أو الخاص.. عليهم ايضاً أن يلتفتوا الى ان اصلاح أوضاع الجامعات ليس فقط في تحسين الوضع المادي لأستاذتها أو بناء المزيد من قاعات الدرس أو تقوية موازنات البحث أو تعيين المعيدين وابتعاثهم للحصول على الدرجات العلمية الأكاديمية العليا التي تخولهم العودة للجامعة مدرسين وباحثين. الجامعة تقوى أيضاً بمدى قدرتها على حضانة أفكار متجددة وبمدى قدرتها على ادارة عملية بحثية حرة، وبمدى تعبيرها أيضاً عن حالة حراك ثقافي وفكري وبمدى قدرتها على تخريج كفاءات تتسرب الى داخل عقولها حرية البحث والحوار والجدل المنتج كما يتسرب الهواء الى داخل صدر كائن حي لا يقوى على الحياة بدونه.
الأمر الآخر أن الباحثين عن عقدة التعليم في مشروع التنمية تخذلهم تصوراتهم إذا اعتقدوا أن التعليم له مواصفات خاصة يجب التركيز عليها دون الالتفاف إلى السياق العام الذي يجعل الجامعة وسواها جزءا من كيان لا عالما متفردا بعيداً عن حواضن الانتاج الأولى التي تسرب طلابها للجامعة عبر سلسلة ومراحل التعليم المختلفة.
الجامعة أيضاً تعبير عن ثقافة جمعية مؤسساتها الأولى تبدأ من الأسرة إلى المدرسة الابتدائية إلى الثانوية إلى الشارع الى السياق الثقافي العام الذي يمد الجامعة بعناصرها الأولى التي يمكن أن تكون تربة خصبة لبيئة جامعية تصقل مواهبها وقدراتها أو تكون مجرد امتداد ثقافي لا تعني سوى الانكفاء والاكتفاء. الجامعة ايضاً جزء من حزمة خلل لا بد من مباشرة اصلاحها من الجذور الأولى.. فعطاء الجامعة رهن بمدى قدرتها على استيعاب القادمين مع معاقل التعليم الثانوي. ومهما كانت بيئة الجامعة مثالية لن تثمر الكثير طالما كانت تلك المخازن تمدها بعناصر طلابية برمجت ذهنياً حد الأسر أو البرمجة الذهنية الكاملة.
الشهادة على أن التعليم أو الحياة الجامعية حتى في بيئات تتميز بالانتاج المعرفي والتفوق البحثي والعلمي وبأجواء تعبر حقيقة عن أجواء الجامعات المفتوحة على معاقل العلم والفكر.. لا يثمر بلا محاولة البحث عن السياق الثقافي التي تنمو أو تضمر فيه الجامعة.
إن جل أعضاء مجلس الشورى الدارسين لنظام التعليم العالي الجديد لم يستول عليهم أكثر من اهتمام بالاستقلالية المادية للجامعات ودعم موازنات البحث العلمي، دون محاولة استعادة وجه الجامعة من خلال التركيز على نظام وميثاق جامعي يضع أولوياته لمسائل مثل تعزيز الحريات الأكاديمية - سواء في البحث أو مصادر المعلومة - والتفاعل الحر بين الجامعة وقضايا المجتمع أو محاولة استعادة ملامح سابقة في ادارة الجامعة كانت تقوم على اعطاء عضو هيئة التدريس فرصة الانتخاب لرؤساء الأقسام أو عمداء الكليات.. وهؤلاء الأعضاء الكرام جلهم ايضاً خريجو جامعات غريبة محترمة، عايشوا أنظمتها وعاشوا أجواءها الثقافية والعلمية والتنظيمية. لن يكون البحث مجدياً في قصة ابتعاث إذن طالما كان السياق الثقافي يلتهم الطاقات ليجعلها تعبيرا نهائيا عن مسائل ثانوية. هنا لن يكون ثمة فارق كبير بين أستاذ جامعي خريج هارفرد أو أستاذ جامعي خريج جامعة محلية. لقد استولى السياق الثقافي العام على المجموع حتى لم نعد نميز بين الفريقين.
إذاً كانت الجامعة وهي أعلى مؤسسة علمية ومختبر كبير يقذف بالكفاءات أو ما يفترض انها كفاءات لسوق العمل أو للعودة المنتجة في سياق النشاط اليومي الاجتماعي والثقافي والتعليمي والاداري، فليس أقل من جعل هذا المعقل يتمتع باستقلالية ليس فقط ادارية ومالية، ولكن ضمن سياق يعزز شروط الاختيار والانتخاب في بعض مفاصل الجامعة الادارية، وينمي فكرة التنافس في الادارة ويعتمد فكرة التمثيل وهو معبر مهم لاصلاح الجامعة.
لا تحمل الجامعة مهما كان مستواها التعليمي عصا موسى لتحل قضايا المجتمع من البطالة إلى التقدم التقني الى الازدهار الاقتصادي.. لأن ثمة سياقا اجتماعيا وثقافيا أوسع عليه أن يعالج كحزمة واحدة. لكن البدء في اصلاح هذا المعقل هو اعلان لامكانية تسرب الاصلاح إلى مفاصل الخلل في قطاعات كثيرة. أعطوا الجامعة ما تستحق من نظم متقدمة في الادارة واجعلوها محضنا كبيرا لانتاج العلم والمعرفة والشخصية الوطنية المتفاعلة مع محيطها وسنكون بذلك تقدمنا خطوة في اصلاح كيان جامعي بدأ التراجع يأكل من رصيده. المهم ان ندرك أين يكمن الخلل.
=====================================
http://www.alriyadh.com/2006/12/18/article210015.html
الرياض
الاثنين 27 ذي القعدة 1427هـ - 18ديسمبر 2006م - العدد 14056