الغذامي كاتب الرياض ورؤيته حول العائلة و التجمعات و البرامج العائلية
القبيلة والمجتمع (الخلية الاجتماعية)
د . عبدالله محمد الغذامي
في تعليقات القراء على المقالات تأتي ملاحظات وأسئلة هي من صميم القضية وتسهم بشكل كبير في تحفيز الأفكار، والملاحظات عموما ايجابية وذات فائدة كبيرة لي، ولقد سأل احدهم بإلحاح عن الحل والحق ان تشخيص اية ظاهرة هو مفتاح لأي حل، ولكن - ومع هذا - فإنني سأجازف بلعبة الحلول مع انني لست معها دائما لأن الذين يطرحون الحلول هم عادة اناس يمنحون افكارهم ثقة ذاتية ويحسبون ان ما يرونه هو المفتاح السحري للكون، وهذا ضرب من الوصاية وتحويل للفكر النقدي من مشروع معرفي الى ورقة توصيات. وتضعف الأفكار دائما حينما تسمي نفسها حلولا. غير اني وربما لمرة واحدة سأجرب طرح فكرة مازلت اراها وأتبينها وهي تخص مفهوم (العائلة) بما انه يشير الى افضل الصيغ البشرية في تحقيق قانون التعارف، والإنسان بوصفه كائنا تعارفيا لابد له أن يدخل في خلية اجتماعية من نوع ما، ولقد كانت القبيلة واحدة من هذه الصيغ، ومع تحول الإنسان من الترحل الى الاستيطان صارت التركيبة الاجتماعية تجنح الى العائلة بوصفها العصبة الأولية والمرجعية المعاشية والوجدانية للإنسان.
وحول العائلة كلام كثير أبدأه بقصة شهدتها في المغرب وقد كنت مرة في مدينة فاس في احد المؤتمرات، وعلى هامش ذلك صحبني الصديق الدكتور محمد العمري وهو من أبناء فاس، صحبني في جولة في فاس التاريخية، ولقد لاحظت كثرة الذين مررنا بهم ممن يسلمون عليه ويتبادلون الكلام معه، وهم جلوس على المقاهي يحتسون القهوة ويدخنون، وكنا في مطلع النهار، ولما سألته عنهم وتعجبت من كونهم شبابا في النهار وفي المقهى والوقت وقت دراسة وعمل وهم لا يدرسون ولا يعملون، فأفادني انهم عاطلون عن العمل وتكلم عن نسبة البطالة في المغرب وأن هؤلاء يعيشون حالة انتظار طويل، وكم قد رأيت الأمر مهولا وخطرا وصارت صورهم تلاحقني وعجبت من تلك الصور الضاحكة من جهة والباذلة للمال في المقهى من جهة ثانية وهي مع هذا عاطلة وخالية الجيوب، ولحظتها شرح لي الدكتور العمري عن تماسك العائلة المغربية وقال ان المتبع هناك انه اذا كان فرد من العائلة يعمل فإنه يعول كل افراد العائلة غير العاملين ويوزع مرتبه فيما بين الجميع، وهذا تأمين عائلي واجتماعي، وقال ان هذا هو ما يحفظ السلام الاجتماعي في المغرب ولو زال تفكك المجتمع وأكل بعضه بعضا، وشدد على تخوفه من انهيار هذا التضامن فيما لو انهارت بنية العائلة في المغرب وحلت الفردية محلها - كما هو حادث في الغرب -.
لقد رأيت هذا القصة وما تحيل اليه من تاريخ خاص في ذهني عن مجتمعنا حينما كانت الناس تهاجر الى الهند والعراق لسنوات من اجل كسب قوتها ودعم الناس بعضهم لبعضهم وتولي الواحد منهم شؤون اهله، ثم ما كان حين تحسنت الظروف وتعلم الأبناء وتوظفوا وصاروا ينفقون على اهلهم، وبذا ظلت البنية الاجتماعية متماسكة معاشيا ووجدانيا.
هذا معنى خطير جدا يضرب على سؤال اجتماعي كبير حيث تظهر قيمة العائلة وأهميتها على مستوى الأمن الاجتماعي للوطن كله، وهو ما ظل يحفظ تماسك الناس في المغرب وعدم انفجارهم في جنون مدمر بما ان ذلك هو مآل العاطلين المحبطين لولا الخلية العائلية، ونحن نعرف ان سمعة العائلة وشرفها تشكل ايضا حصانة اخلاقية اذ تقوم مقام الراصد الذاتي لسلوك الفرد وحسابه لمردود سلوكه على أهله.
ولو ذهبنا الى امريكا لرأينا ما يعزز ذلك وهم هناك يطرحون في خطاباتهم السياسية والثقافية سؤال العائلة وضرورة الأخذ بالقيم العائلية، والقيم العائلية هو التعبير المطروح في تلك الخطابات، وهي شعار انتخابي دائم مثلما انها مصطلح يتردد بكثرة في لغتهم وفي تعليقاتهم وتأملاتهم في المجتمع والبيئة، وذلك في محاولة منهم لاستعادة الدور المفقود للعائلة حتى صار ذلك جزءا من لغة الانتخابات والوعود المأمولة اجتماعيا وسياسيا بعد ان تبين لهم الضرر الناتج عن انهيار خلية العائلة. وفي بريطانيا صدر قانون يحمل الوالدين مسؤولية شقاء الأبناء في المدارس حتى اذا فصل ولد من مدرسته جرى اجبار احد والديه بالبقاء معه في المنزل ويجب عليه او عليها اخذ اجازة قسرية من العمل للبقاء مع الولد في البيت الى ان تنتهي فترة العقاب وذلك لأن البيت خلية اجتماعية اولية لابد من اعادة دوره في تحمل المسؤولية وفي بناء السلوك والتصور.
ومن الشائع في الغرب ان ترى في ايام الأحد لافتات كبيرة في الحدائق العامة تشير الى تجمع عائلي كبير ويحضر له افراد العائلة من كل الولايات ولو في الطائرات، ومثله ما يجري لدينا من اعادة تجميع للعائلات وإنشاء صناديق للعائلة، وهذه مؤشرات قد تكشف عن معنى سلبي وهو فقدان المعنى العميق والتقليدي للعائلة، ومع احساس الناس بذلك صاروا يشكلون هذه التجمعات، في مواجهة لما فعلته المدن والهجرات للعمل من تفكك اسري تشهد عليه وتكمله التفككات التي صارت لمفهوم الجار حيث تقلصت علاقات الجيران وصار بعضهم يجهل حتى اسم جاره وربما لا يرى وجهه أبدا، خاصة مع انظمة البناء الحديثة والمداخل الإلكترونية والسماعات على الأبواب بحيث لا تظهر الوجوه لا على باب ولا على نافذة، وصار البيت قلعة محصنة يعجز حتى الطير الطائر من التسلل اليها.
هذا التفكك دعا للتنادي بالتجمع الشكلاني السنوي وهو تجمع يضمر النوايا الحسنة لولا ان ظاهرة اخرى صارت في تزامن معه وأخذت تفتك بالعائلة وتقوضها من الداخل، وهي ظاهرة (الاستراحات)، والاستراحة بديل مكاني واجتماعي للبيت قضت اول ما قضت على البيت وحجبته عن الرؤية حتى لا يعرف الأخ بيت أخيه مكتفيا بمعرفة الاستراحة.
ثم حدث مع الاستراحة ان تقسمت العائلة الى اقسام فللأب استراحته وشلته وللأم استراحتها وشلتها وللأولاد استراحاتهم، وصارت العائلة الواحدة ثلاثة كيانات متقاطعة ولا يرتاح اي جزء منها الا مع شلته وليس مع سائر افراد العائلة وكأنما هم سكان فندق او مشاركون في مؤتمر ينتظرون انتهاء الجلسات الرسمية ليفر كل الى وجهته.
ان العائلة نظام اجتماعي ووجداني يمثل افضل ما ابتكره الإنسان من انظمة اجتماعية، والعائلة قيمة معنوية ومادية هي حصانة ذاتية ونفسية، وأي نقص في نظامها سينعكس مباشرة على سلوك كل فرد من افرادها، ولذا لابد من التأمل في هذا النظام والحفاظ عليه، فهو اولا تحول ثقافي عميق من كل الصيغ الأخرى قبيلة كانت او غيرها الى خلية اولية صحيحة التكوين ودقيقة الحدود ومنضبطة المسؤوليات. ثم هي بناء تربوي واقتصادي ليس عليه شوائب، وكل عائلة هي مرجعية ذاتها وليست بحاجة الى شهادات نسب لكي تكون عائلة محترمة ومسؤولة وفي العائلة يتحقق شرط الرحم والصلة ويحمل الاسم هوية ذاتية تعني وتدل وصاحبها يحمي هذا الاسم بوصفه علامة كاشفة وبوصفه قيمة جوهرية مباشرة، وهي البديل العملي للقبيلة مثلما ان القبيلة ليست شرطا فيها، وبما ان كل فرد هو فرد حي وكائن بشري، وبما ان كل ذات هي من نسل آدم وحواء بالضرورة والتساوي، فإن كل ذات هي سلالة لأم وأب، اي لعائلة، وهذه هي القيمة الجوهرية للمجتمع الإنساني، وتكتسب كل عائلة قيمتها من صفاتها المكتسبة ومن تماسكها الأخلاقي والاجتماعي. وأنا لا اقول انني اطرح حلولا ولكني اطرح رؤية نقدية لما نلاحظه من تفكك اهم بنية اجتماعية، وقد حدث هذا في الغرب ويحاولون معالجته، وسيحدث عندنا ومؤشراته واضحة، ولو بلغ التفكك مداه فهذا معناه تعريض السلم الاجتماعي للخطر. والعائلة غطاء رمزي وانكشافه يعني الوقوع في العراء.
ملاحظة: سأتوقف عن نشر هذه المقالات مع هذا المقال وأمامنا الامتحانات ثم الصيف وبعدهما شهر رمضان الكريم، ولعلي اعود - إن شاء الله - بعد رمضان لإكمال الحلقات وقد مضى منها ثماني عشرة مقالة وبقي مثلها، وكم انا ممتن لتعليقات القراء والقارئات على موقع الرياض، لقد استمتعت بها واستفدت منها وسأفقدها فعلا طول فترة العطلة هذه ولكني اسجل عميق شكري لهم ولهن وسأظل احتفظ بالكلمات والأسماء والإشارات، حتى من استخدم منهم ومنهن اسماء مستعارة، والامتنان للكل. وآمل من الجميع العودة معي بعد رمضان بإذن الله.
========================================
http://s1.alriyadh.com/2007/06/07/article255366.html
ارياض
الخميس21جمادى الأولى 1428هـ - 7يونيو 2007م - العدد 14227
تعليق
المحب للتعاون , يُحيل د. الغذامي على مشروع البناء العائلي الممتد